تحول اليمن خلال العقود الستة الماضية إلى ساحة صراع فكري عميق عبر تيارات ثقافية مختلفة من الشرق والغرب، ظهرت أولى ملامحها الأيديولوجية العابرة للحدود في منتصف القرن الماضي، عندما وصلت تأثيرات جماعة الإخوان المسلمين والتي ظهرت بشكل متزايد عقب ثورة 1948 ومشاركتهم فيها عبر التنظير الديني والسياسي، غير أن هناك عوامل قوة مغيبة أخرى أدت إلى ولادة نقاط تماس أيديولوجي كانت أحد أطرافها القبيلة، حيث ظهرت مع الحوثيين حين سيطروا على صنعاء. عدن - ألقت التحولات الفكرية طيلة ستين عاما في بلدان المركز العربي وهي سوريا ومصر والعراق بظلالها على المشهد الثقافي والسياسي اليمني، الذي تأثر بفعل المد اليساري الشيوعي والقومي بشقيه البعثي والناصري، إضافة إلى نشوء مدارس فكرية متباينة. ورغم انحسار تأثير نفوذ العديد من التيارات الفكرية بفعل عوامل وتحولات سياسية عصفت بالعالم والمنطقة، إلا أن تأثير تيارات الإسلام السياسي المختلفة أخذ في النمو مع الخسارة التي لحقت، مثلا، باليسار اليمني عقب انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الشيوعية في العالم. وتراجع إلى حد كبير دور التيارات القومية نتيجة لسقوط نظام البعث في العراق وانهيار الشكل التقليدي لحزب البعث السوري، وقبل ذلك تلقى الناصريون في اليمن ضربة عقب فشل الانقلاب الناصري في 1978 والذي انتهى بإعدام قادة التنظيم والعمل في الفترات اللاحقة على إضعافهم. وفي ظل انشغال الأحزاب اليمنية بالصراع السياسي في صنعاء، كان هناك تيار أكثر خطرا آخذ في الانتشار والتمدد بصمت في صعدة بفعل الكثير من الأسباب الموضوعية، ليس أولها تأثيرات ما يسمى بـ”الثورة الإسلامية في إيران” التي قادها الخميني في 1979 وليس آخرها تخاذل الدولة عن ملء الفراغ الثقافي في تلك المحافظة تحديدا. وظلت صعدة تعيش حالة عزلة تامة استمرت حتى بعد قيام ثورة 26 سبتمبر 1962 ما جعلها فريسة سهلة لتسلل الأفكار الإيرانية التي وجدت لها حاملا ثقافيا ممثلا في بقايا وامتدادات النظام العميق للإمامة في اليمن عبر الأدوات التقليدية ذاتها المتمثلة في بعض البيوت الهاشمية مثل بدرالدين الحوثي الذي كان مأخوذا بتجربة الخميني. وسعى بدرالدين لنقل تلك الأفكار بهدوء وروية إلى اليمن من خلال تنشئة جيل جديد من معتنقي الفكر الجارودي، الذين كان من السهولة تحويلهم إلى قنابل بشرية موقوتة بفعل التغذية الثقافية المتطرفة والمتشبعة بمبادئ التشيع، التي أعاد صياغتها الخميني وفقا لأسس سياسية وقدمها كوصفة جاهزة لكل مدارس التشيع السياسي حول العالم. عوامل قوة مغيبة أحدثت ثورة سبتمبر 1962 زلزالا سياسيا واجتماعيا في اليمن، الذي ظل غارقا لعقود في العزلة الثقافية، لكن تحولات شهدها لم تمتد إلى صلب المشهد السياسي الذي عانى من حالة فراغ وخصوصا في الجانب الإيجابي منه، حيث كان يُفترض أن يعمل على توجيه المزاج الشعبي باتجاه تعزيز العلاقات المشتركة بين اليمن ومحيطه العربي. وحصل كل ذلك في ظل حملة ممنهجة دأبت على انتهاجها وسائل الإعلام والأدوات الثقافية الموجهة، والتي نجحت إلى حد ما في تكريس صورة نمطية سلبية لعلاقة اليمن بجيرانه، فقد عمل الإعلام الراديكالي أو القومي أو اليساري عبر فترات سابقة على إسقاط فرضياته النمطية حولها كأعداء تاريخيين وسياسيين مفترضين. واستغل المشروع الإيراني هذه الثغرة الهائلة في بنية الثقافة السياسية الهشة للتسلل منها إلى منظومة العمل الثقافي والسياسي والاجتماعي كما عملت العديد من الدول على الاقتراب من المشهد الثقافي اليمني واختراقه وتطويع بعض عناصره لصالح تحقيق أهدافه. وما يلاحظ أن آثار دمار المشروع الإيراني بدأت عمليا من خلال التأثير الثقافي وتصدير أفكار الثورة الخمينية مطلع ثمانينات القرن الماضي في ظل انشغال الدولة اليمنية بتقاسم النفوذ وتطويع مراكز القوى التقليدية في محيط صنعاء، كما انحصرت مظاهر التأثير العربي التقليدي على الواقع اليمني في استقطاب دوائر النفوذ التقليدية مثل شيوخ القبائل. وهذا المعطى جاء انطلاقا من مفهوم نمطي ورؤية غير واقعية لخارطة النفوذ تنطلق من كون القبيلة هي من تقود التحولات الكبرى بالبلاد، بينما تؤكد الأحداث التاريخية أن هذا المكون يمكن تطويعه ثقافيا، وهو ما حدث في الجنوب عبر سيطرة شباب متحمسين متأثرين بالفكر اليساري على مقاليد الدولة في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية بين عامي 1963 و1990. وفي المقابل ظلت التيارات القومية والبعثية والناصرية والإسلامية هي من تحرك المشهد في شمال اليمن قبل أن تلتهم الميليشيات الحوثية الدولة في سبتمبر 2014 وتجبر المكون القبلي على السير في ركابها وخدمة مشروعها. وتشير التحولات في هذه الفترة الحرجة إلى أن كل مساعي الدول العربية وتحديدا الخليجية، والرامية لجذب اليمن نحو محيطه الجيوسياسي وإخراجه من عزلته الأيديولوجية والسياسية، التي فرضها كونه نظاما جمهوريا مثقلا بالصراعات في محيط ثري ومستقر، قد تعثرت في الكثير من الأحيان بل تم تشويهها عبر أدوات ثقافية وإعلامية في معظم الأوقات. سياسة ملء الفراغ من خلال العمل الدؤوب الذي قامت به شخصيات ومؤسسات ثقافية، نجحت هذه الفئة عبر عقود في إحداث تحول تراكمي في المزاج الشعبي والوعي اليمني العام، وتغذية القيم المعادية التي انتهجت مسارا قائما على التشويش وتسليط الضوء على الفوارق الاقتصادية والسياسية بين اليمن وجيرانه. وساهمت الطريقة الكلاسيكية لتعاطي المحيط الخليجي مع التحولات التي شهدها اليمن، في تعميق هذا الانقسام الذي أفرز الحالة الحوثية، نتيجة لغياب الرؤية الثقافية للتعامل مع البلد مما ساهم في تغييب الكثير من الحقائق وتكريس الأكاذيب التاريخية سواء على مستوى الوعي الشعبي البسيط أو حتى في أوساط النخب. وخلال السنوات التي تلت قيام الثورة الخمينية، كان اليمن في مقدمة الدول المستهدفة بتصدير الثورة إليها، وقد توخت طهران أسلوبا ناعما يعتمد على الروية والنفس الطويل، فركزت في البداية على النخب الثقافية المستنيرة، من سياسيين وكتاب وصحافيين وشخصيات اجتماعية، ولم تكن وقتها تنشط على أساس مذهبي عبر التفريق بين أتباع المذهبين الرئيسيين الشافعي والزيدي في هذا التوجه، كون المسألة الطائفية لم تكن في ذلك الحين حاضرة بقوة ولا مقبولة شعبيا. واتخذت الحكومة اليمنية في مطلع الثمانينات خيارها وهو الانحياز للعراق في حربه مع إيران، وكانت هناك كتائب يمنية تقاتل على الجبهات في الحدود العراقية – الإيرانية، لكن الجبهة الأقوى التي لم يتنبه إليها أحد حينها كانت جبهة الصراع الثقافي، الذي يحتدم في “المقايل” والمنتديات اليمنية بين مروجي فكر الخميني بوصفة نظرية إسلامية شاملة للتغيير. وبينما كان الصراع عميقا وقويا بين العراق وإيران، ورغم ميلان الكفة طيلة الثمانينات لصالح العراق، فإن إيران لم تيأس ولم تستسلم، وظلت المنح الدراسية الإيرانية تتوالى والتغلغل الثقافي يتعمق يوما بعد يوم، حتى خرج العراق من معادلة هذا التنافس بعد غزو الكويت عام 1990 وإن كانت هناك أسباب أخرى من أهمها قيام الوحدة اليمنية وما نتج عنها. وعقب ذلك الحدث كانت الساحة الثقافية النخبوية اليمنية بشقيها الرسمي والمعارض تموج بتفاعلات كثيرة، وقد ارتفعت وتيرة التغلغل الإيراني بشكل كبير، خاصة بعد أن نشأت جماعة الشباب المؤمن الحوثية لتكون تنظيما دينيا شيعيا يوازي الجماعات السلفية التي كانت تتلقى الدعم من مؤسسات غير رسمية في دول الخليج. وعند هذه النقطة انتقل الصراع ليكون صراعا خليجيا إيرانيا، وفي حين ركزت دول الخليج على دعم واستقطاب المشائخ القبليين والدينيين، ركزت إيران على الانتشار عموديا، مستهدفة النخب العلمية والثقافية. ولم تسع إيران علنا حتى ذلك الوقت لنشر التشيع، ولا طلبت من المثقفين تبني توجهاتها، إذ كان التغلغل ذكيا يعتمد على المثاقفات العقلية، ووضع فلسفة الخميني وعلي شريعتي الإسلامية اليسارية والإسلام الديمقراطي الليبرالي لدى مهدي بازرکان مقابل الأشرطة والكتيبات الدعوية البسيطة التي يوزعها دعاة السلفية بما تتضمنه من آراء جدلية حتى داخل التيار السلفي ذاته. وفي ظل هذا الصراع المحتدم نشأ تياران متضادان استهدف أحدهما النخب المثقفة بالتفسيرات الأيديولوجية المختلفة للإسلام وامتد لاستهداف جماعات اشتراكية وعناصر علمانية متنوعة، فيما ظل التيار الآخر يضع النخب المثقفة خارج دائرة اهتمامه، ويركز اهتمامه على القوى التقليدية. وساهم هذا الجو المشحون والدور الإيراني المباشر وغير المباشر في اتساع رقعة العداء داخل المشهد الثقافي اليمني للمحيط اليمني وانخرطت في هذه الموجة تيارات أخرى تقوم في الأساس على معاداة المنظومة الخليجية مثل اليسار والتيارات القومية والبعثية والناصرية. ومع تصاعد حالة الصراع الداخلي بين المكونات السياسية اليمنية، وانشغال دول الخليج بمحاولة إطفاء جذوة الانقسامات ودعم الاقتصاد اليمني المتهاوي، تعمق النشاط الإيراني وخصوصا في السنوات العشر الأخيرة بما فيها سنوات الحرب. واستقبلت إيران في سنة 2006 وحدها المئات من المثقفين اليمنيين في طهران وقم ومشهد وضاحية بيروت الجنوبية وأقامت معهم علاقات متينة ساهمت في تبنيهم وانحيازهم الواضح للسياسة الإيرانية، وهو الأمر الذي ظهرت آثاره الكارثية لاحقا عندما انحاز قسم كبير من رموز المشهد الثقافي اليمني لجبهة الحوثي أو فضلوا التزام الصمت في أحسن الأحوال. وفي المقابل، تجدد الرهان في الطرف المقابل على الساسة وشيوخ القبائل الذين عادوا لممارسة هوايتهم المفضلة في استنزاف الأموال وبيع المواقف السطحية التي لا تحدث أي أثر في أفراد القبائل أو أعضاء الأحزاب عوضا عن إحداثها أي إثر يذكر في البنية الثقافية والشعبية اليمنية العميقة التي تصنع التحولات.
مشاركة :