رغم ما تشهده الساحة الشعرية العربية من تخوم لكم هائل من الشعراء على اعتبار أن القصيدة الجديدة طرحت نفسها كمشروع مفتوح واستطاع الكثيرون من خلالها وضع تجربتهم ككتاب وطبعت المجاميع والدواوين الشعرية لكن هناك بعض الأسماء التي تجد صدى وجمهورا نخبويا وتتميز عن غيرها بقوة النص وبراعة إبداع الصورة الشعرية منهم الشاعر العربي علي الحازمي الذي يندرج ضمن مجموعة من كتاب النص الحديث يقول في أحد نصوصه: في مساء الخريف المضمّخ بالفُلِّ والتين والأغنيات تكنس الذكريات ورود الكلام المجفف في باحة الدار حيث جلستَ طويلاً تهدهدُ ريش الغرام الخفيف السنين التي ازدحمتْ بنساء كثيرات يشعلن ليلك في هدأة.. غادرتكَ إن آلية الكتابة عند الشاعر تعتمد على بنية ما يعرف بوحدة النص الداخلية فتجده يشتغل على فكرة واحدة لكنها تتعدد بصور من أجل الخروج بفضاءات واسعة فقصيدة النثر مطلقة كما يذهب الكاتب نصيف فلك على وصفها بالقصيدة الكونية لأنها مفتوحة على كل شيء بالكون ويمكن إدخال لها تشابيه متنوعة كما يمكن ألا تكون ذا وحدة موضوعية فَتِّشْ إذاً عن طيفِ مَنْ غادرتَهُ عن أُغنياتِ الغيمِ، عن وَتَرٍ يسيلُ إلى براري الصمتِ في عينيكَ، فَتِّشْ عن وجودِكَ في السرابِ وفي الغيابِ وفي الصدى لا بُدَّ من نَايٍ أَخيرٍ شَارِدٍ نَايٍ بهيجٍ كُلَّمَا ضَيَّعْتَهُ في زحمةِ الدنيا لِروحِكَ… أَوْصَلَكْ مقطوعة شعرية خيالية عبر من خلالها الشاعر عن أحاسيس وصور متراكمة في داخلها وفقا لتحليل الكاتب عدنان حسين قاسم في كتابه “الخيال التصويري” فإن الخيال حسب نظرية كولردج “ينقسم إلى نوعين: القسم الأول منه يقوم بوظيفة الإدراك والجمع، أما القسم الثاني فيقوم بوظيفة التحليل والنشر والتجزيء وقد استطاع علي الحازمي من وضع خيال ذي بعد فني مثل: وصف ناي شارد، وفتش عن وجودك كل هذه الاستعارات تأخذنا للبعيد في نظرة الحازمي وقدرته على توظيف المفردات لتشكيل جمل ناضجة: لِمَ لا تُصَدِّقُ كُلَّمَا حَدَّقْتَ في المرآةِ ، موتَكَ بعْدَها ليلى التي أَحببتَ يا قلبي تكالبَ حول مِعْصَمِها اليبابُ وبدَّدَ التِّيهُ المسافرُ ظِلَّها هِيَ لم تَعُدْ يوماً لليلِكَ نجمةً وأَنْتَ أَيضاً دُونَما سَببٍ وَحِيدٍ لم تَعُدْ قَمَراً لَها .. تقنية عالية في الاشتغال على فكرة العمل قد استطاع الشاعر من خلال الرمزية في الكتابة أن يسوق إبداعاته فالرمزية كماء جاء في الموسوعة المعرفية حركة في الأدب والفن ظهرت في فرنسا في أواخر القرن التاسع عشر، كرد فعل للمدرستين الواقعية والطبعانية، وهدفت إلى التعبير عن سر الوجود عن طريق الرمز. وقد تأثر الرمزيون، أكثر ما تأثروا، بأعمال بودلير ومع احتفاظهم بمبدأ «الفن للفن» فسعوا في المقام الأول إلى إعطاء القارئ انطباعاً عن وعيهم الباطن، معتمدين في ذلك على الموسيقى والصُّور الشعرية التي تبرز «أحلام الشاعر الداخلية». وفيما طرح علي الحازمي تبرز حالة التشبيه أو البعد عن المعنى الظاهر فهو بقوله كُلَّمَا حَدَّقْتَ في المرآةِ، موتَكَ بعْدَها يعطينا دلالة واضحة على مدى الإبحار في المعنى من خلال تصوره لحوار مفتوح مع قلبه الذي يخبره: (هي لم تَعُدْ يوماً لليلِكَ نجمةً) إنه يشتغل على ثقافة المكان التي اشتغل عليها كل من غاستون باشلار وفوكو وهي إخراج الأشياء من عوالمها إلى فضاءات أوسع فالشاعر قد صور لنا أن قلبه يسمعه وأخذ يعاتبه وهنا يظهر العالم الفكري والموهبة التي تميز الشاعر والأديب عن غيره ليلى تُحَدِّقُ في انكِسَارِ الحُلمِ في عَينيَّ حين تزورُني وأَنَا أُحَدِّقُ في (مساءَ الخيرِ) حين تَقُولُها ، وَتَرٌ خفيفٌ من هديلِ حُروفِها الخَجْلى يُحَرِّضُ رَغبةَ الخيلِ التي هَدْهَدْتُها في داخِلي زمناً ، ويُغريني لأَقْفِزَ خَارِجَ السورِ الذي شَيَّدْتُهُ بيديَّ في قلقِ الفصول عودة على المورث مع أن الحازمي من شعراء الحداثة في الخليج لكن لم يستطيع التخلي عن مكنون الفهم للورث العربي ففي النص يخاطب ليلى وهي رمز للعربية يقول عنها أنها تنظر في انكسار الحلم ثم يصف مشهد الحرص على الخيل، إن هذا الإدخال للملامح البدوية يأخذنا إلى طابع الأصالة التي لم يغادرها الشاعر على رغم ما كتب من نصوص حداثوية تنوعت في الطرح ولذا يعد كل عمل بصمة على الكاتب وملكية للذائقة العامة المعنية بالخطاب. * ناقد عراقي
مشاركة :