الشارقة: أوميد عبدالكريم إبراهيم يبدأ الإنسان مشوار حياته المهنية بخطوة أولى تعتبر الأصعب والأهم، وربما تنعكس بعد ذلك على المراحل التالية، وتشكِّل اللبنة الأولى في البنيان الوظيفي؛ بغض النظر عن مجال التخصص، ولو تحدثنا عن الأدب بمختلف صنوفه، فإن لكل كاتب عملاً أدبياً أول قد لا يجسد هويته الأدبية الحقيقية بعد سنين الخبرة الطويلة بعد ذلك، ولكنه بلا شك يعتبر بمثابة شرارة الانطلاق نحو عالم الإبداع اللامتناهي، فكيف ينظر المبدعون إلى أولى نتاجات أقلامهم بعد أن ارتقوا على سلم الأدب، وبلغوا الهدف المنشود؟ ينبغي النظر إلى العمل الأدبي الأول في ظلّ سياقاته ومناخاته الزمنية والثقافية، كما يقول عدد من المثقفين في هذا الاستطلاع، الذين يؤكدون أيضاً أن من الخطأ أن يتعامل المبدع مع أولى أعماله انطلاقاً من المستوى الثقافي والأدبي الذي وصل إليه في ما بعد؛ كما يجمعون على أنهم يعتزّون بأول عمل لهم بغض النظر عن مستواه؛ لأنه كان الدافع الرئيسي للاستمرار وتحقيق المزيد، وأنهم لن يغيروا في ذلك العمل شيئاً لو عاد بهم الزمن. أهم منجز يرى الشاعر كريم معتوق أن كتابة العمل الأول تُشعر المبدع بأنه حقق أهمّ منجزاته، وعليه، فإن من الخطأ محاسبة تجربة ما بعيداً عن مناخها الذوقي والفني الذي صدرت فيه، ومن ناحية أخرى توصلتُ شخصياً إلى قناعة بأن المبدع يجب ألا يمارس نقداً، وألا يجعل ذوقه معياراً محدِّداً للنشر، فالقصيدة التي كتبها نزار قباني مثلاً، ويعتبرها طالب، أو طالبة جامعية من روائع الأدب؛ قد يعتبرها نزار نفسه ضعيفة، وهذا المثال عن نزار يؤكد قناعتي بأن على الأديب أن ينشر كل ما يكتبه، وعلى مختلف المستويات، فعندما سُئل أبو تمام عن رأيه في البحتري؛ أجاب قائلاً: قويِّي أفضلُ من قويِّهِ، وضعيفهُ أجوَدُ من ضعيفي، وهذا يدلُّ على أن أبو تمام كان يعلم أن لديه شعراً قوياً، وآخر عادياً، وعليه فإن على الأديب، أو الشاعر ألا يأخذ العمل الذي يراه متفوقاً، ويكتفي به في النشر، بل يجب أن يقدم جميع إبداعاته، فهناك قصيدة تحظى برضا النقّاد، وأخرى تثير اهتمام طالب في المرحلة الجامعية، وثالثة تعجب ربة منزل متوسطة الثقافة. وبناءً على ما سبق؛ فإن ديواني الأول «مناهل» لا أجد فيه نقصاً؛ أو ما يعيبه، وأعتز به وإن كان أقل مستوى مما كتبتُ لاحقاً، وما يؤكد ذلك هو أنني في «المجموعة الشاملة»، وبعض القصائد الأولى التي نشرتها؛ لم أخجل من بساطتها؛ أو مما قد يقوله عنها النقاد؛ لأنها لا تمثل تجربة كريم معتوق، وأؤكد أنني لن أغير منها شيئاً إن عاد بي الزمن، فلتلك المرحلة جمالياتها التي تفوقتُ عليها بعد ذلك، ولكنها ما زالت تعجب القراء بطبيعة الحال؛ بمختلف مستوياتهم، ومشاربهم. هويّة يشير الكاتب والقاص محسن سليمان إلى أنه عاصرَ جيلين من المبدعين، ويقول: لقد أصدرتُ أول مجموعة قصصية لي بالتزامن مع صدور جائزة الشارقة للإبداع العربي، وقد انعكس ذلك إيجاباً عليّ؛ فأول عمل لي حصد المركز الثالث في تلك المسابقة؛ علماً بأن النشر كان صعباً آنذاك، وأذكر أنني كنت أراسل الكثير من دور النشر في عدة دول؛ لكني لم أستطع النشر، ولكن الجائزة كان لها الفضل في انطلاقتي، وعليه فقد كان ذلك الحدث دفعة معنوية كبيرة لي، واختزل مراحل طويلة ووفَّر عليّ الكثير. في الوقت ذاته، يعتبر أول عمل مسؤولية كبيرة؛ خصوصاً إذا كان فائزاً بجائزة ما، ولن يسلم من النقد بأي حال، وأنا شخصياً أعيد اليوم غربلة ما قرأته سابقاً، وأنتقي قراءاتي بعناية؛ لكنني أحافظ على المستوى الذي وصلت إليه، وإذا عاد بي الزمن، فلا يمكن أن أغير في أول عملٍ لي شيئاً، وقد كان ذلك العمل مكوَّناً من 15 قصة تدور حول مواضيع متنوعة، وفي تلك الفترة كنتُ بصدد تحديد موقعي في عالم الكتابة، وما إذا كنت سأستمر في هذا المجال أم لا؛ خصوصاً أنه كان من الصعب آنذاك إيجاد قراء ينظرون بعين ناقدة إلى مثل هذه الأعمال من أجل تقييمها، ولكنها بالمجمل كانت «معاناة لذيذة وجميلة»، وأعتز بذلك العمل الذي كان بمثابة انطلاقتي الأولى نحو عالم الإبداع، وبداية تشكّل هويتي الكتابية. سعادة غامرة تتحدث الكاتبة والقاصة عائشة عبدالله عن مدى حبها واعتزازها بأول عمل لها، وقد كان قصة للأطفال، وتقول إن ذلك العمل بمثابة أول مولود لي، ولن أغير فيه شيئاً لو عاد بي الزمن، فالمرء يعتز بأولى إبداعاته، ولن يغيره، أو يعدِّل عليه مهما كان فيه من نواقص؛ لأنه أعطاك الدافع للإبداع، وشكَّل الانطلاقة الأولى نحو عالم الكتابة الرحب والفسيح، وقد أنجزت ذلك العمل الموجَّه للأطفال عندما كنتُ أعملُ مُدرّسة آنذاك؛ حيث لاحظت أن الأطفال بشكل عام لديهم طبع مشترك، وهو حبُّ التملُّك، وكانت هذه الفكرة منطلقاً لإنجاز ذلك العمل، ومن ثم طبعتُ القصة وحازت على المركز الثالث في مسابقة جمعية المعلمين، وبعد طباعتها قرأتُها على تلاميذي، وبعد ذلك حوَّلناها إلى مسرحية طلابية، وحظيت بتفاعل كبير من جانب الطلاب أنفسهم؛ مع أنها كانت تتناول صفة موجودة فيهم؛ ألا وهي حب التملك؛ أو الأنانية. أول عمل أدبي يعني الكثير بالنسبة إلي، وأعتبره بمثابة جائزة قدمتها لنفسي، وقد كان نتاج قراءتي المكثفة؛ إذ كنت مولعة بالقراءة منذ سن مبكرة، وكنت أسأل نفسي دوماً: هل أستطيع الكتابة؟ وما زلتُ حتى الآن أتذكر السعادة الغامرة التي شعرت بها عند طباعة قصتي الأولى، ومهما كان فيها من نقص، فأنا أحبها كما هي عليه؛ لأنها بمثابة شرارة الانطلاقة الأولى، وعليه فإنها تمثل كنزاً أدبياً ثميناً بالنسبة إلي؛ بغض النظر عن مستواها، فحتى عناصر الطبيعة التي أحبها؛ ذكرتها ووضعتها في تلك القصة، وبالتالي باتت بمثابة جزء من هويتي الشخصية والأدبية على حدٍّ سواء.
مشاركة :