لا تفكر الإمبراطوريات مثلما تفكر الكيانات القومية، ففي الإمبراطوريات العثمانية والنمساوية والروسية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بل قبل ذلك، عاشت شعوبٌ وإثنياتٌ صغيرة أو متوسطة الحجم، إلى جانب بعضها البعض دونما مشكلات كثيرة، وقبل منتصف القرن التاسع عشر ما كانت هناك مشروعات «دول قومية»، وطبعاً باستثناء اليونان التي استقلت عن الإمبراطورية العثمانية في عشرينيات القرن التاسع عشر، بعد «حرب وطنية» شارك فيها متطوعون أوروبيون كثيرون، وساعدت فيها الدول أيضاً. لكن تفكك الإمبراطوريتين النسماوية والعثمانية، واللتين كانتا تتقاسمان أكثر مناطق البلقان، كان مؤلماً جداً، فقد استمر التفكك بين منتصف القرن التاسع عشر والحرب العالمية الأولى، وكان على عدة مستويات: صراعات بين العثمانيين والنمساويين والروس، وثورانات من جانب شعوب المناطق بهدف إنشاء دول قومية، وتدخلات من جانب أنجلترا وفرنسا وإيطاليا، إلى جانب هذا الطرف أو ذاك لمصالح استراتيجية، بعد أن شاع خبر إمكان تقاسم تركة «الرجل المريض» (الدولة العثمانية). وبدون الخوض في التفاصيل، فإنّ الأقل تضرراً بين الإمبراطوريات في الحرب الأُولى الإمبراطورية الروسية التي صارت سوفييتية، دون أن تفقد الكثير من ممتلكاتها ومستعمراتها السابقة في آسيا الوسطى والقوفاز. ومن بين آلام تفكك الإمبراطورية العثمانية: المذبحتان الأرمنيتان؛ الأولى عام 1895 والثانية عام 1915 وكانت الأشد هولاً، بسبب الآمال التي تصاعدت لدى الأرمن بإمكان إقامة دولة قومية لهم، لكنّ ما خسره الأرمن في تركيا عوّضهم عنه ستالين في العشرينيات بإقامة كيان أرمني في المناطق التي ينتشر فيها الأرمن في روسيا القيصرية، وكان اللغز أنّ ستالين ما ضمّ إلى «أرمينيا يريفان» إقليم «ناغورنو قره باغ» الذي يضم أكثرية أرمنية، بل ضمه إلى آذربيجان، وعندما سقط الاتحاد السوفييتي 1989/1990، واستقلت الكيانات الاتحادية السابقة ومنها أرمينيا وآذربيجان، سارع الأرمن متطوعين وعسكراً وبمساعدة روسيا وإيران وتعاطف الدول الغربية إلى الاستيلاء عسكرياً على «ناغورونو قره باغ»، بل وعلى الشريط الآزري الواقع على الحدود مع أرمينيا، وبذلك تلقّت آزربيجان هزيمةً عسكرية فرضت واقعاً جديداً رغم صدور قرار دولي يطلب من الجيش الأرميني الانسحاب، وبقي الإقليم «لا معلّق ولا مطلّق»، إذ لم تجرؤ أرمينيا على ضمّه، كما أنّ أذربيجان ما استطاعت الانتقام إلا بإقامة علاقات دبلوماسية قوية مع تركيا! ولأن آذربيجان دولة بترولية، وزعماؤها شيوعيون سابقون، فقد أصلحت علاقاتها مع روسيا بعض الشيء، وصارت تمر في أراضيها أنابيب البترول والغاز الروسية ذهاباً وإياباً، ولفائدة الطرفين. لماذا الحرب الآن؟ يقول الآزاريون إن كل أساليب التفاوض جُرّبت وفشلت، سواء في «مجموعة مينسك» أو في منظمة الأمن والتعاون الأوروبية، وظلت معظم الأطراف في الجوارين الآزري والأرميني القريب والبعيد تميل إلى أرمينيا! وجد الرئيس الآزري أن الفرصة ملائمة لوضع السلاح فوق الطاولة، تساعده هذه المرة تركيا، والراجح أنه لا يأمل بعودة الإقليم أو تحريره، وإنما يأمل التفاوُض على شروط أفضل، وليس عنده مصدر للسلاح غير تركيا، في حين أن جيشه مسلح روسياً، وبالطبع فإن روسيا لن تعطيه سلاحاً الآن! الآزريون قاموا بالهجوم لكنهم لم يتقدموا صوب «ناغورنو قره باغ»، بل اكتفوا بالقصف المدفعي والطيران، إنما الطريف أن أردوغان استحضر هذه المرة أيضاً المرتزقة السوريين، في حين تحشّد الأُلوف من المتطوعين الأرمن، ومضوا إلى الإقليم! الحرب لدى الطرفين وطنية وقومية، والنفوذ الأكبر لروسيا بالطبع، لكن بوتين لا يريد إزعاج الأرمن (أحباء الغرب)، ولا معاداة آزربيجان للارتباط بالمصالح البترولية والغازية! هل تتوقف النيران؟ ستتوقف بمساعي المجتمع الدولي وروسيا، لكنْ تركيا أردوغان ستتلقى انتكاسةً عنيفةً تشمل خسائر «الحرب»، دون أن تحقق شيئاً لأردوغان وحزبه.. فلماذا إذن كانت الحرب؟ وما هذا الفهم العاجز لموازين القوى؟ هذه أسئلة توجه بالطبع لأردوغان قبل غيره! *أستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
مشاركة :