تواصل مجلة الجديد الثقافية فتح ملفات محورية اليوم في الثقافة العربية ورهاناتها المعاصرة، حيث تناولت المجلة في عددها الـ69 قضية الأدب المهجري، الذي يرى الكثيرون أن تسميته لا تتوافق مع الراهن العربي وتشرد الأدباء في المنافي القسرية لا المهجر الاختياري. وقد قارب نقاد وكتاب من مختلف الجنسيات العربية هذه الظاهرة بشكل مختلف عن المألوف. كيف نعرّف المهجرية العربية الثانية وقد اتسعت لتشمل مبدعين ومفكرين من شتى المستويات والمرجعيات والمشارب والجنسيات العربية، هل ما زال في وسعنا الحديث عن “أدباء مهجر وأدب مهجري”؟ هل ما زال في وسعنا أن نطلق المصطلح الأول نفسه على نتاجات حملة الأقلام ومعهم الفنانون والمبدعون في مجالات السينما والمسرح والتشكيل وغيرها من الفنون الصادرة اليوم عن جمهرة عربية كبيرة من المبدعين المهاجرين والمنفيين؟ ربما جسد الظاهرة اتسع واختلف وتعددت أوجهه وضاق عليه المصطلح، وبات واجبا علينا أن نبتكر مصطلحا جديدا لنطلقه على إبداعات أدبية وفكرية وفنية لها سمات جديدة تتعلق بمنتجين جدد هم بالضرورة مختلفون اختلافا كبيرا هم وعصرهم عن أولئك الذين أهدونا المهجرية الأولى على مدار النصف الأول من القرن العشرين؟ هذه الأسئلة وغيرها طرحتها مجلة “الجديد” الشهرية الثقافية على نخبة من الكاتبات والكتّاب العرب، وقد شكّلت إجاباتهم المتون التي قام عليها ملفها الواسع “أدب مهجر أم أدب منفى؟” في عددها الـ69 الذي صدر مطلع شهر أكتوبر الحالي. وهو ملف للتفكّر في هذه الظاهرة وأسئلتها، وبمنزلة دعوة مفتوحة للكتّاب والمفكرين العرب للإسهام في مناقشتها. مهجر أم منفى كتب رئيس تحرير المجلة الشاعر نوري الجراح في افتتاحية العدد عن “الشاعر في المنفى: سارق النار المعلق بين شقي الأخدود” حيث خلص إلى أن الشاعر وحده، برؤاه المغامرة، بغضبه، بانحيازه المطلق إلى جانب الحرية والمقاتلين لأجلها، قادر على اجتراح معجزة العثور على كلمات جديدة. ولكنه، في حالة الشاعر الذي كتب قصيدته بلغة عربية جعلتها مفردات المنفى مبهمة لقارئ عربي، ولغة عربية لا قاموس يفسّرها لأصحاب المنفى، سيبقى أبدا سارق النار المنفيّ مرتين، والمعلّق الخالد على أخدود العالم ونسر الاغتراب يأكل قلبه وكبده وعينه الرائيتين. ويرى الناقد حاتم الصكر، في مقاله “المهجرية الجديدة: تساؤلات المصطلح والدلالة” أن مصطلح “المهجر” ومفهومه يبدو أقل إيلاما في تصوير الحالة من مصطلح “المنفى” الذي تلاه. وهو إجباري يجد المرء نفسه مرغما على اتخاذه مقرا، وقد تداوله أدباء شردتهم السياسة في أوطانهم. مصطلح "المهجر" ومفهومه يبدو أقل إيلاما في تصوير الحالة من مصطلح "المنفى" الذي تلاه وهو إجباري وينتهي الصكر إلى التأكيد على أن مَهاجر اليوم تعددت قارّيا، ولم يعد بالإمكان الحديث عن مناخ جنوبي وآخر شمالي، فالمهاجرون الجدد وصلوا إلى دول آسيوية قصيّة وأخرى أفريقية.. ولكن الجديد في الحالة المعاصرة هو التواصل الشديد الذي منحته وسائط الاتصال بالأوطان وثقافاتها. ويعتقد الناقد عبداللطيف الوراري، في مقاله “هجرات الأدب عندما تصير هويّات الكتابة بلا رسوّ”، أن بوسعنا اليوم النظر إلى المنفى، كما يرى منظّرو ما بعد الدراسات الاستعمارية، في اتّجاهين مختلفين: منفى مفروض وآخر اختياري، مُميِّزين بين المنفى والاغتراب، فالأول مفروض، حيث لا يستطيع المنفيُّ العودة إلى وطنه الأم حتى لو رغب في ذلك، أما الثاني فهو اختياري نشأ نتيجة رغبة المرء في مغادرة وطنه لأيّ سبب من الأسباب. ومن الصعب، في رأيه، اليوم أنْ نضع تخطيطا لمعنى المنفى ضمن هذه الظروف المعقَّدة من عمليات النزوح والشتات والاغتراب والاقتلاع والتشريد والنفي من جهة، ومن مسارات الرحيل الطوعي أو الهجرة بحثا عن الحرية أو الرغبة في الرقيّ بأوضاع المعيش من جهة ثانية. ويقف الناقد ممدوح فراج النابي، في مقاله “نوستالجيا الأوطان المفقودة: الأوطان في المخيّلة السّردية”، على نقل الروائيين العرب تجربة المنْفَى إلى المجاز، استجابة لميراث عريض يُحرِّض المقموعين على المواربة والتعريض والتورية، وبصورة أجمل إلى التقيَّة. ويحلل النابي نماذج دالّة من هذه الكتابات التي أنهكها الحنين والبحث عن أوطان بديلة، وأيضا الذين يعيشون في أوطانهم (المنفيون في الداخل) وثمة مسافة زمكانية تفصلهم عنها، وتجعلهم يشعرون بالحنين إليها، ومن ثمّ صَارت صورة الوطن تتراوح بين مجرد حُلم، وبين مجرد كذبة بيضاء. أو حتى بين مجرد سؤال لا جواب له. ويستأنف الناقد عبدالله إبراهيم، في مقاله “آداب المنافي بدلا من آداب المهجر”، التذكير بأنه آن الأوان لتنشيط جدل ثقافي ينتهي بإحلال عبارة “كتابة المنْفَى” محل عبارة “كتابة المهجر”، بعد مرور أكثر من قرن على استخدام مصطلح “أدب المهجر”. وحجّته في ذلك أنّ كتابة المنفَى مزيج من الاغتراب والنفور، وتراوح في منطقة الانتماء المزدوج إلى هويتين متباينتين، ثم، في الوقت نفسه، عدم إمكانية الانتماء لأي منهما، وهي كتابة كاشفة تقوم على فرضية تفكيك الهوية الواحدة، وتقترح هوية رمادية مركّبة من عناصر كثيرة. ويختلف “أدب المنفى” عن “أدب المهجر” اختلافا واضحا، كون الأخير حبس نفسه في الدلالة الجغرافية، فيما انفتح الأول على سائر القضايا المتصلة بموقع المنفِيّ في العالم الذي أصبح فيه دون أن تغيب عنه قضايا العالم الذي غادره. الفشل في الاندماج يتساءل الناقد مولود بن زادي في مقاله عن كيفية تمييز الأدب المهجري من المحلي في المهجر، فالأدب المهجري أوسع من أن يُحصر في إطار مكاني أو زماني ضيق. فهو جغرافيا واسع سعة العالم الذي نحيا فيه ونرحل في أرجائه، وتاريخيا قديم قدم الأدب الذي ورثناه عن أجداد معروفين بترحالهم منذ قديم الزمان. ويتواصل هذا الأدب اليوم بعيدا عن الأضواء في كامل بقاع الدنيا معبرا عن مشاعر عميقة صادقة صقلتها حياة مختلفة في بيئة جديدة، تشارك فيها أقلام متأثرة بالحياة فيها، تحيا فيها الهجرة بأدق معانيها.. أقلام اكتشفت بين أهاليها -من أجناس بشرية وانتماءات دينية مختلفة- أسمى معاني الإنسانية، فطبع كل ذلك كتاباتها وميزها من مؤلفات الأوطان. ويلقي الكاتب محمد الحجيري نظرة على أجيال الكتابة اللبنانية المهاجرة، موضّحا أن الهجرة اللبنانية كانت موجات وحصلت بأعداد كبيرة على مراحل، وإذا كانت هجرة البدايات أنتجت “أدب المهجر”، فإن الهجرة في العقود القليلة الماضية صارت تأخذ أبعادا أخرى مختلفة. ويخصص الناقد لونيس بن علي مقاله لروايات الجزائري عمارة لخوص، فيقول إن إيطاليا تتحول في روايته “كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضك” إلى الذئبة التي وردت في أسطورة تأسيس روما، والمهاجر إلى ابنها غير الشرعي، فكيف له أن يرضع منها دون أن تلتهمه؟ سؤال ذكي طرحته الرواية ابتداء من عنوانها. ويستمر لخوص في روايته “القاهرة الصغيرة” في النهج نفسه، أي الكتابة عن المهاجرين العرب في إيطاليا، وهذه المرة في حي يقطنه المهاجرون يسمّى بالقاهرة الصغيرة، حيث تحول الاندماج، إلى مهمة أمنية، تقتضي تحول البطل من هوية إيطالية إلى شاب تونسي ومسلم. حسب ما يكتبه العرب اليوم لا يوجد أدب أو فكر مهجري له خصائصه كما كان سائدا في الماضي ويقدم الناقد مفيد نجم، في مقاله “العنونة المكانية في روايات المنفى السوري”، قراءة في عناوين الأعمال الروائية التي نشرت خلال سنوات الانتفاضة السورية الماضية، مثل روايات عبدالله مكسور “أيام في بابا عمرو”، “عائد إلى حلب” و”أبناء البحر” وروايتي شهلا العجيلي “سماء قريبة من بيتي” و”صيف مع العدو”، ورواية “مدن اليمام” لابتسام تريسي، و”تل الورد” لأسماء معيكل، و”خمارة جبرا” لنبيل ملحم، و”لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” لخالد خليفة، و”زئير الظلال في حدائق زنوبيا” لسليم بركات، ولا ماء يرويها” لنجاة عبدالصمد، و”قميص الليل” لسوسن حسن و”وادي قنديل” لنسرين خوري. ويرى نجم أن عناوين هذه الروايات يمكن أن تشكل مدخلا لهذه القراءة بحمولاتها الدلالية الهامة، لاسيما ما يتعلق منها بالدوافع العميقة التي تتولد عنها هذه الدلالات والمعاني على المستويات الوجودية والإنسانية والسياسية أيضا. أما الكاتبان سعيد خطيبي وحميد زنار، فيكتبان عن تجربتيهما في بلدين أوروبيين، الأول في سلوفينيا، حيث لا يشعر فيها أنه مهاجر، ويزاول عمله نفسه كما كان في الجزائر، ويكتب كما كان سلفا عن قضايا تشغله في التّاريخ، وفي تراكمات ما بعد الكولونيالية. والثاني في فرنسا، مؤكدا أنه تحرّر في المنفى من الجاذبية الثقافية المحلية، ونافيا وجود أدب أو فكر مهجري له خصائصه كما كان سائدا في الماضي، وأن الفصل لم يعد ممكنا، فابستطاعتك أن تجد في عز الغرب لدى المهاجرين والمنفيين فكرا أصوليا متخلفا بينما تعثر في بلدان الشرق على فكر حداثي راق. وفي إطار الملف ذاته، يختم مؤسس المجلة وناشرها هيثم الزبيدي العدد بمقال طريف عنوانه “لا أدب اغتراب ولا هم ينغرسون” يقول فيه “لا أعرف إن كان بوسعنا الاستمرار في استخدام مصطلح ‘الاغتراب الأدبي’. مرّ على وجودي في المهجر أكثر من 30 عاما، وأستطيع أن أدّعي أن الأدب في الغربة كائن غير موجود”. ويرى الزبيدي أن المصطلح لكي يصح ويستقيم استخدامه ينبغي أن يكون هناك “مغترب أدبي” لكي ينتج أدبا مغتربا، في حين أن البيئة التي يعيش فيها “الأديب” و”المثقف” المهاجر، أو المهجّر أو المزاح جغرافيا، هي بيئة بعيدة كل البعد عن فكرة الاغتراب بالمعنى الكلاسيكي، أي الانتقال جغرافيا وفكريا إلى بيئة جديدة، ثم الكتابة الواعية عن روح أدبية أو فكرية أو ثقافية غرست في أرض جديدة. القليلون من الاستثناءات لا يمكن أن يعدّوا ظاهرة، بل السؤال الأصعب والأكثر إثارة للقلق: كيف يمكن أن تهاجر كل هذه الآلاف من الأدباء والمثقفين وتعجز عن أن تجد غرسا في بيئتها الجديدة؟.
مشاركة :