الحوارات تبقى من أبرز الطرق الكاشفة عن الجوانب المخفية من حياة المبدعين، ولا يتوقف إغراؤها للقراء عند هذا الجانب المثير، بل يصل أيضا إلى الحفر في حياة كل مبدع للكشف عن منهل الإبداع عنده وكيف تشكلت رؤاه فكريا وعاطفيا ومعرفيا ونفسيا، لذا تقول الحوارات مع الأدباء والمبدعين ما تسكت عنه نصوصهم وأعمالهم وهنا مكمن أهميتها. حفلت المكتبة العربية بالعديد من الكتب، المؤلًّفة والمترجمة، التي تضم حوارات مع مفكرين وأدباء وفنانين وسياسيين عرب وأجانب، يبوحون فيها برؤاهم ومواقفهم وتجاربهم، ويكشفون عن قضايا تشغلهم على أصعدة مختلفة. وأحيانا يقدمون اعترافات وأسرارا عن هفواتهم، وجوانب من حدوسهم ومواطن قوتهم وضعفهم، بحيث يتحول الحوار إلى نافذة يطل منها القارئ على حيوات وثقافات إنسانية، وتجارب وحكايات نجاح أو فشل، وغير ذلك مما يتعلق بخصوصيات هؤلاء الرموز والنخب، ومجتمعاتهم، وموروثات شعوبهم وتقاليدها. ومن أحدث هذه الكتب “رقيم الحبر: شعراء يتحدثون عن الطفولة والحب والمنفى” للشاعر علي العامري، الصادر حديثا عن الدار الأهلية للنشر والتوزيع في عمّان ورام الله. تدور حوارات العامري مع عبدالوهاب البياتي، سلمى الخضراء الجيوسي، عزالدين المناصرة، ماريا غريك غانادو، محمد القيسي، شوقي عبدالأمير، وناتالي حنظل في فلك الشعر، فاتحة بوابة على معنى الكتابة والحياة والزمن، وتمتد من الضوء إلى الحدس، ومن حجر العتمة إلى اشتقاق البرق، مرتحلة من البلاد إلى المنافي المتعددة جغرافيّا ولغة وثقافة، وتطوف في أرض طفولة الشعراء وأزمنتها وعلاماتها الأولى، متتبعة أثرهم في رقيم الحياة ومسيراتهم المضاءة بأحلامهم وأوجاعهم وإبداعاتهم. والقارئ، كما يقول العامري في تمهيده للكتاب، “رحّالة يجول في أرض كلّ حوار، يقرأ كما لو أنه يصغي إلى أصوات الشعراء السبعة الذين حفروا أسماءهم في مخطوطة الزمن، وعبّروا عن تأملاتهم وانشغالاتهم وهمومهم الخاصة والعامة على حد سواء، وذاقوا جحيم المنفى مثلما تذوقوا رحيق الحبّ، وتجرّعوا علقم الخسران، وفي الوقت نفسه فتحوا كوّة ضوء تعبر منها صرخة الإنسان في نشيد الحرية”. الطفولة والأمكنة علي العامري: يمكن للقارئ أن يصغي إلى أصوات الشعراء السبعة الذين حفروا أسماءهم في مخطوطة الزمن علي العامري: يمكن للقارئ أن يصغي إلى أصوات الشعراء السبعة الذين حفروا أسماءهم في مخطوطة الزمن يتحدث عبدالوهاب البياتي عن تضاريس طفولته، حيث الزوارق الورقية في نهر دجلة، الظلمات، الجنائز، الملامسات المحفورة، الألم، الذئاب، مفاتيح المعاني، الحب، الحكايات الشعبية، القطار، غزل البيت، الخسارات وشواهد القبور في بغداد، وعن شغب المدينة وأماكنها وشخصياتها، بمن فيهم جارته عائشة التي حوّلها في قصائده إلى رمز، وأسمى أحد دواوينه باسمها وهو “بستان عائشة”. كما يتحدث عن ولعه بالجلوس في أعلى سطح بيت جده، في مواجهة السماء، أو الأزرق الشاسع، وهو يتمنى أن يرحل مع الطيور إلى مكان ما، ويتأمل الغيوم التي تمر عابرة كخيول أو كفراشات كبيرة. ثم يسرد بعض تفاصيل زياراته إلى قرية أعمامه، رفقة أبيه، وما لعبته تلك الزيارات من دور أساسي في تكوين مخزون كبير من الذكريات والصور الطبيعية العميقة، وتشكيل علاقاته الأولى مع الصبايا. ويحكي عزالدين المناصرة عن طفولته، والبحر الميت، وعمود الملح، وتدمير الحنين، والترحيل القسري، والإقامة القسرية، وعن مريام، وجفرا والقدس، وكنعانيا، وعنب الخليل، والبتراء، وجرش والأزرق، مؤكدا أن المكان له “شعرية ماقبْليّة” يراها السائح والشاعر السائح، ولا فضل للشعراء في وجودها لأنها موجودة قبل قصائدهم. ويعزو هيمنة “شعرية المكان” على شعره إلى أنه بدأ من ظاهرة عذابات الفقد والمنع القسري، ولم تكن الأمكنة بنية ثقافية ذهنية في تجربته. ويقف المناصرة طويلا على واقع النقد الأدبي العربي وإشكالياته، مبيّنا أنه حقل مختلط وغامض. ويطارح مناصرة مجموعة أسئلة حول النصوص التي توصف بأنها أدبية، هل هي الشعر أم الرواية أم القصة القصيرة أم المسرحية على نحو خاص؟ وما هي حدود قراءة النص المسرحي؟ هل هي قراءة النص المكتوب فقط؟ هل نسمي قراءة النص المسرحي معروضا على الخشبة قراءة نقدية أدبية خالصة؟ هل نطبّق مفهوم “الشعريات” على “شاعرية الرواية؟ هل يظل الحاجز حاجزا فعليا بين القصة والرواية؟ وكيف يتفاعل النقد العربي مع مسألة تدمير الحدود بين الأجناس التي تُسمى أدبية؟ وغير ذلك من الأسئلة. ويتحدث محمد القيسي عن الرصيف والتجوال، وعن أمّه حمدة والمخيّم، والحلم، والموقد المحتمل، والفقدان، والأمكنة المؤقتة، والخراب المشترك، وتغلغل الأسطورة في شعره، الذي لم يتأتّ بفعل قصدي أو مدروس، بقدر ما هو انعكاس عفوي لتغلغل النصوص الأسطورية في تجربته الشعرية. ومثل عزالدين المناصرة يركز على تأثير المكان في نفسه “عرفت أماكن كثيرة، بدءا من القرى التي عبرناها في الرحيل الأول حتى الوصول إلى المخيم، والمنافي، والصحارى والمدن العربية وغير العربية. للمكان، بلا شك، ذاكرة، وكلانا عمل على تهييج ذاكرة الآخر وإيقاظها”. ويقول عن طفولته إن آثارها لا تزال في داخله بكل ما تحتشد من بيوت وشجر وناس وحالات وحياة. وأن الحنين إلى الطفولة شكل من أشكال العودة إلى الرحم الأول (الأم- الأرض)، وأن ما يدفع الإنسان إلى اللجوء إلى الأول قسوة الثاني وظلمته. تحولات وملامح ثقافية الحوارات السبعة تنفتح على معنى الكتابة والحياة والزمن مرتحلة من البلاد إلى المنافي المتعددة جغرافيّا ولغة وثقافة الحوارات السبعة تنفتح على معنى الكتابة والحياة والزمن مرتحلة من البلاد إلى المنافي المتعددة جغرافيّا ولغة وثقافة وتفتح سلمى الخضراء الجيوسي كتاب “الحضارة العربية في صِقِلّية”، الذي أعدته باللغة الإنجليزية، بدعم من مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، وتضمن 15 دراسة حول إنجازات العرب بالغة الأهمية في الجزيرة. كما تتحدث عن مشروع “بروتا” الذي أسسته لترجمة الأدب العربي إلى اللغة الإنجليزية، وعن رابطة الشرق والغرب للدراسات، وتوضح أثر العرب في الأدب الأوروبي في مجالات اللغة، والشعر، والموسيقى، إضافة إلى المطبخ، والزراعة، والأزياء والعمارة، في سياق السعي إلى محاربة النظرة المغلوطة عن العرب، ومجابهة ما فرضته أوروبا من مركزية الثقافة، وما قامت به من العمل على إيهام العالم بأنها هي مصدر الثقافة العالمية الأول والأخير. وتسلّط ماريا غريك غانادو الضوء على الثقافة في بلدها مالطا، وتحولات الأرخبيل المتوسطي، وأثر اللغة العربية في اللغة المالطية. كما تتحدث عن طفولتها، والمخطوطة الوردية، والميناء الكبير، وعن لندن، وترحالها، ومعاناتها من اضطراب المزاج ثنائي القطب “الاكتئاب الهوسي”، وكيف جاء الشعر علاجا لها، مانحا إياها شجاعة الاستمرار والثقة والفرح والتوازن “على الرغم من أنني غريبة الأطوار، أستطيع أن أسمي نفسي الآن روحا حرة، ويعود الفضل في هذا إلى الشعر بكونه علاجا”. ويتطرّق شوقي عبدالأمير إلى الثقافة وما تواجهه من تهميش، وإلى الهوية العربية، والظمأ إلى مشروعات ثقافية كبرى، والنقد الأدبي، وجائزة ماكس جاكوب الشعرية، وظاهرة النجومية الحقيقية والزائفة، ومشروعات الترجمة العربية. ويؤكد على أهمية الحوار الثقافي مع الآخر، وأعماله الشعرية الجديدة، ومشروعات الترجمة العربية. كما يتحدث عن صداقته مع الشاعر محمود درويش في باريس، وعن سلسلة “كتاب في جريدة” التي كان يشرف عليها، وتصدر عن منظمة التربية والثقافة والعلوم (اليونسكو). ومثلما أطلق سعدالله ونوس مقولة “إننا محكومون بالأمل” يؤكد عبدالأمير “نحن محكومون بالتواصر، والاستمرار بانطلاقة جديدة”. وتروي ناتالي حنظل، المولودة في هايتي، والمهاجرة أسرتها الفلسطينية من بيت لحم، والأستاذة في جامعة كولومبيا بنيويورك سيرتها التي تشكّلت في الأرخبيل الكاريبي، وأميركا اللاتينية، وفرنسا، وبريطانيا، والولايات المتحدة الأميركية، والعالم العربي، وعموم آسيا والشرق، وكيف أسهم التعدد الجغرافي في تكوين رؤيتها الثقافية، وظهر هذا التمازج الحيوي في قصائدها، عبر تجربة تغوص عميقا في إشكالية الذات والآخر، ومفاهيم العيش والعدالة والمساواة. كما تتحدث عن بيت لحم بوصفها جوهر حياتها ومدينة أجدادها، وعن حياتها في المنفى و”البحر اللغوي” وحنينها الممتد في أربع قارات، وتوزع أفراد عائلتها في مختلف مناطق الشتات، وصعوبة لم شملها في مكان واحد “حياتنا في المنفى شبكة غير متناهية من التراجيديا والجمال معا”، وعن ديوانها “شاعرة في الأندلس”.
مشاركة :