لم يجتمع خلق التواضع مع خلق القوة في بشر، كما اجتمعا في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان نموذجاً فريداً في التواضع وحسن الخلق مع الناس جميعاً من مسلمين وغير مسلمين، سادة وشرفاء في قومهم أم بسطاء وعبيد، أغنياء يملكون الثروة والجاه أم فقراء لا يجدون قوت يومهم، فقد كان يتعامل مع الجميع بميزان واحد يتسم بالتواضع واللين من دون أن يبدو أمام أحد ضعيفاً أو مستسلماً أو راضياً قانعاً بما يحاول الآخرون فرضه عليه، وهذه هي المعادلة الصعبة في شخصية المسلم التي رسمها لنا رسول الإنسانية.. المعلم الأول والأعظم للمسلمين. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أن التواضع من مكارم الأخلاق، ومحامد السجايا والصفات، وأنه سمة المؤمنين المخلصين، وعلامة واضحة للصفوة من عباد الرحمن الذين أضافهم رب العزة إليه، وذكر أول أخلاقهم. وعلاماتهم في قوله سبحانه: وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً.. ولذلك تخلق به، ودعا إليه وكان القدوة والمثل في التواضع واللين.. لكنه أيضاً يعلم أن المسلم يجب أن يكون قوياً، فقد أعزه الله بدينه الخاتم الذي أراده هداية للناس أجمعين، ويعلم أن الضعفاء في كل العصور تهدر حقوقهم على أيدي ضعفاء النفوس، ولذلك كانت توجيهاته لكل المسلمين، فضلاً عن سلوكه الشخصي، تكشف عن تركيبة فريدة في بناء الشخصية السوية التي تجمع بين التواضع والقوة. كان صلوات الله وسلامه عليه يعلم صحابته الكرام أن أهل التواضع واللين، هم أحرى الناس بتمكين الله لهم في الأرض وحبه لهم، فهم مع إخوانهم المؤمنين يتعاملون باللين والرحمة، ومع خصوم وأعداء الإسلام والمسلمين يتعاملون بالشدة، إنهم على المؤمنين أذلة، وعلى الكافرين أعزة، وهذا السلوك النبوي الكريم دليله وقائده وموجهه، كما يقول د. محمد عبدالفضيل القوصي، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر، قول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم. فهنا أمر مباشر من الله تعالى لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، بأن يخفض جناحه لمن اتبعه، أي أن يتعامل معهم بلين ورفق وتواضع، وقد فعل صلوات الله وسلامه عليه ما طلبه منه خالقه، وكان المثل الأعلى في التواضع ولين الجانب، والتعامل الراقي مع الناس جميعاً، ولذلك كسب القلوب واستحوذ على النفوس، وكان الجميع يقدر له تواضعه وحسن خلقه في التعامل مع البسطاء والضعفاء من الناس والتوجيهات النبوية وقصص تواضعه كثيرة ومتنوعة ولا يتسع لها المقام هنا. الأسوة الحسنة يقول د. القوصي: لقد استطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم بتواضعه الفريد، وبأسلوبه الراقي في التعامل أن يكسب قلوب الناس، وأن يحقق نتائج جيدة لدعوة الحق التي كلفه الله بنشرها بين الناس لهدايتهم، وبالرفق والرحمة، التف الناس حوله، واجتمعوا على كلمة الحق والهدى، وفي هذا توجيه للعلماء والدعاة والمصلحين بأن يأخذوا الأسوة الحسنة من نبيهم الكريم صلوات الله وسلامه عليه، فيحرصوا على الرفق واللين والرحمة مع من يتعاملون معهم، ويدعونهم إلى طريق الحق والخير، فالغلظة والقسوة تقيم حواجز بين الدعاة والمصلحين والجماهير على اختلاف توجهاتها، وهذا ما نبه الخالق سبحانه رسول الإنسانية إليه في قوله عز وجل: فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم، وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله، إن الله يحب المتوكلين. تروي لنا كتب السنة النبوية روايات صحيحة تكشف عن نماذج من تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتؤكد كل الروايات أنه، صلوات الله وسلامه عليه، كان المثل الأعلى في التواضع ولين الجانب، فكان يجيب دعوة العبيد، ويأكل مع الخادم، ويجالس المساكين، ويخدم أهله.. هذا فضلاً عن توجيهاته الكريمة، ووصاياه الصادقة التي تحث على خلق التواضع، وتدعو إلى كل ما فيه حسن الخلق في التعامل مع الناس جميعاً، وهذا كله فيه مصلحة حقيقية للإنسان، فالتواضع الصادق، كما يقول د. القوصي، يرفع من قيمة صاحبه، ويعلي من منزلته عند الناس، فضلاً عما يترتب على هذا التواضع في الآخرة من مثوبة وأجر ومكافأة إلهية، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله. التواضع.. لمن؟ لكن.. من الذين ينبغي أن يتواضع لهم المسلم؟ يقول الإمام القرطبي في تفسيره إجابة عن هذا السؤال: المتواضَع له هو الله تعالى. ومن أمر الله بالتواضع له كالرسول والإمام والحاكم والعالم والوالد. فهذا هو التواضع الواجب المحمود الذي يرفع الله به صاحبه في الدارين. وأما التواضع لسائر الخلق. فالأصل فيه أنه محمود ومندوب إليه ومرغب فيه. إذا قصد به وجه الله تعالى. ومن كان كذلك رفع الله قدره في القلوب، وطيب ذكره في الأفواه، ورفع درجته في الآخرة. وأما التواضع لأهل الدنيا، ولأهل الظلم فذاك الذل الذي لا عز معه، والخيبة التي لا رفعة معها، بل يترتب عليه ذل الآخرة. ومن النص السابق يقسم الإمام القرطبي، رحمه الله، التواضع بين (واجب، ومندوب، ومحرم) فالتواضع الواجب يكون لله عز وجل أولًا، فهو الملك الحق المبين، والنافع الضار، المحيي المميت، المنعم بكل النعم قال سبحانه: وما بكم من نعمة فمن الله. وبعد الخالق سبحانه يجب التواضع لكل من له فضل على الإنسان، وأمر الله عز وجل بالتواضع له، كالرسول، والإمام، والحاكم، والعالم، والوالد. ويؤيد ويساند تصنيف القرطبي للتواضع، كما يقول عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر، وجود نصوص قرآنية عديدة تحث على التواضع للنبي صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله، واتقوا الله إن الله سميع عليم. يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي، ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون. وفي التواضع للإمام والحاكم. يروى أن أبا سفيان دخل على سيدنا عمر، رضي الله عنه، في خلافته وتقدم من كبار الصحابة، وهو مع صحبته من سادات قريش، ولكنه تقدم غيره من كبار الصحابة ممن كان يتقدمهم في الجاهلية قبل الإسلام، فعلاه سيدنا عمر بالدرة (وهي التي كانت تلازمه)، وقال له: أقبلت لا تهاب سلطان الله في الأرض، فأحببت أن أعلمك أن سلطان الله لا يهابك. والتواضع للوالدين، جاءت نصوص قرآنية وتوجيهات نبوية كثيرة تحث عليه، من بينها قوله تعالى: وقضى ربك ألّا تعبدوا إلّا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة. فهذا نص فيه وجوب التواضع للوالدين. وهذا يعني، كما يقول القرطبي: خفض الجناح ولين الجانب والانكسار بين أيديهما. أما التواضع لسائر الخلق فقد ضرب لنا سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المثل الأعلى في التواضع لسائر الخلق، وفي سيرته وسنته الكثير من النماذج العملية للتواضع لسائر الخلق من سيد المتواضعين، صلى الله عليه وسلم. وقناعة رسول الله صلى الله عليه وسلم هنا أن التواضع يرفع من شأن صاحبه رفعة حقيقية، وأن ضعاف الشخصية من الناس هم الذين يعتقدون أن الكبرياء الزائف يرسم لهم صورة جيدة في عيون الناس وهم مخطئون يجهلون قيمة التواضع. روى أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على صبيان فسلم عليهم. وكان السلام على الصغار سلوكاً نبوياً كريماً لأن فيه إشاعة لإلقاء السلام، فمن يسلم على الصغير لا يترك السلام على الكبار، ومن يسلم عليه صغيراً يعتاد السلام كبيراً. وكان من صور تواضعه عليه الصلاة والسلام خدمته لأهله.. يقول الأسود بن يزيد: سألت عائشة، رضي الله عنها، ما كان النبي يصنع في بيته؟ قالت: يكون في مهنة أهله (تعني خدمة أهله) فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة. فضيلة بين رذيلتين وحتى لا تختلط الأوراق في ذهن وسلوك أي مسلم يوضح العالم الأزهري، د. أحمد عمر هاشم، أستاذ السنة النبوية وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر، أن التواضع في صورته الحقيقية فضيلة بين رذيلتين.. الرذيلة الأولى هي الذل والمسكنة وهذه صفة لا تليق بمسلم حباه الله بكل ما يجعله عزيزاً يعيش مرفوع الرأس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول هنا: طوبى لمن تواضع في غير مسكنة، وأنفق مالاً جمعه في غير معصية، ورحم أهل الذل والمسكنة، وخالط أهل الفقه والحكمة. والرذيلة الثانية: هي الغرور والاستعلاء والتكبر.. والغرور آفة الآفات، وأخطر الرذائل، ومهما اختال الإنسان وتكبر فإنه ضعيف، بل هو أضعف من الجمادات التي يظهر زهوه وخيلاءه فيها، فالأرض التي يمشي عليها مهما ضربها بقدميه فلن يخرقها، والجبال التي يراها مهما اشرأب بعنقه وتطاول بقامته فلن يبلغ طولها، فعلام الكبر؟ قال الله تعالى: ولا تمش في الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً. صانع التوازن وهكذا يتضح لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو صانع التوازن الحقيقي في سلوك المسلم، فهو متواضع قوي وعزيز، حيث علمنا عليه الصلاة والسلام من خلال سلوكيات عملية أن القوة لن يصنعها الكبرياء الزائف، وأن رقي الإنسان وتحضره يبدو واضحاً في تواضعه وحسن خلقه مع الضعفاء، وأن الكبرياء والتعالي على الناس والسخرية من البسطاء منهم، والبلطجة في التعامل معهم لن تجلب للإنسان احتراماً وتقديراً من أحد، كما يعتقد بعض السفهاء هنا وهناك. علمنا صلوات الله وسلامه عليه أن التحضر والرقي الإنساني يفرض على صاحبه أن يتعامل مع الناس بتواضع، وأن يحترم مشاعرهم ويقدر إمكاناتهم ويراعي إنسانيتهم، وأن التواضع ليس مجرد فضيلة تجلب لصاحبها رضا الناس وحبهم وتقديرهم بعد رضا الله عز وجل، بل هو قيمة إيجابية تحسن العلاقة بين الناس وتنشر المحبة والمودة بينهم. ما أحوجنا نحن المسلمين إلى التخلق بأخلاق رسول الإنسانية حتى نجلب لأنفسنا رضا الخالق والمخلوق.
مشاركة :