خاتم المرسلين‮.. ‬سيد المتواضعين

  • 8/7/2015
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

لم‮ ‬يجتمع خلق التواضع مع خلق القوة في‮ ‬بشر، كما اجتمعا في‮ ‬شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم،‮ ‬فقد كان نموذجاً‮ ‬فريداً‮ ‬في‮ ‬التواضع وحسن الخلق مع الناس جميعاً‮ ‬من مسلمين وغير مسلمين،‮ ‬سادة وشرفاء في‮ ‬قومهم أم بسطاء وعبيد،‮ ‬أغنياء‮ ‬يملكون الثروة والجاه أم فقراء لا‮ ‬يجدون قوت‮ ‬يومهم،‮ ‬فقد كان‮ ‬يتعامل مع الجميع بميزان واحد‮ ‬يتسم بالتواضع واللين من دون أن‮ ‬يبدو أمام أحد ضعيفاً‮ ‬أو مستسلماً‮ ‬أو راضياً‮ ‬قانعاً‮ ‬بما‮ ‬يحاول الآخرون فرضه عليه،‮ ‬وهذه هي‮ ‬المعادلة الصعبة في‮ ‬شخصية المسلم التي‮ ‬رسمها لنا رسول الإنسانية‮.. ‬المعلم الأول والأعظم للمسلمين‮.‬ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم‮ ‬يعلم أن التواضع من مكارم الأخلاق،‮ ‬ومحامد السجايا والصفات،‮ ‬وأنه سمة المؤمنين المخلصين،‮ ‬وعلامة واضحة للصفوة من عباد الرحمن الذين أضافهم رب العزة إليه،‮ ‬وذكر أول أخلاقهم‮. ‬وعلاماتهم في‮ ‬قوله سبحانه‮: ‬وعباد الرحمن الذين‮ ‬يمشون على الأرض هوناً‮ ‬وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً‮.. ‬ولذلك تخلق به، ودعا إليه وكان القدوة والمثل في‮ ‬التواضع واللين‮.. ‬لكنه أيضاً‮ ‬يعلم أن المسلم‮ ‬يجب أن‮ ‬يكون قوياً،‮ ‬فقد أعزه الله بدينه الخاتم الذي‮ ‬أراده هداية للناس أجمعين،‮ ‬ويعلم أن الضعفاء في‮ ‬كل العصور تهدر حقوقهم على أيدي‮ ‬ضعفاء النفوس،‮ ‬ولذلك كانت توجيهاته لكل المسلمين‮، ‬فضلاً‮ ‬عن سلوكه الشخصي‮، ‬تكشف عن تركيبة فريدة في‮ ‬بناء الشخصية السوية التي‮ ‬تجمع بين التواضع والقوة‮.‬ كان صلوات الله وسلامه عليه‮ ‬يعلم صحابته الكرام أن أهل التواضع واللين،‮ ‬هم أحرى الناس بتمكين الله لهم في‮ ‬الأرض وحبه لهم،‮ ‬فهم مع إخوانهم المؤمنين‮ ‬يتعاملون باللين والرحمة،‮ ‬ومع خصوم وأعداء الإسلام والمسلمين‮ ‬يتعاملون بالشدة،‮ ‬إنهم على المؤمنين أذلة،‮ ‬وعلى الكافرين أعزة،‮ ‬وهذا السلوك النبوي‮ ‬الكريم دليله وقائده وموجهه‮، ‬كما‮ ‬يقول د‮. ‬محمد عبدالفضيل القوصي‮، ‬عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر‮، ‬قول الله تعالى‮: ‬يا أيها الذين آمنوا من‮ ‬يرتد منكم عن دينه فسوف‮ ‬يأتي‮ ‬الله بقوم‮ ‬يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين‮ ‬يجاهدون في‮ ‬سبيل الله ولا‮ ‬يخافون لومة لائم ذلك فضل الله‮ ‬يؤتيه من‮ ‬يشاء والله واسع عليم‮.‬ فهنا أمر مباشر من الله تعالى لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم،‮ ‬بأن‮ ‬يخفض جناحه لمن اتبعه،‮ ‬أي‮ ‬أن‮ ‬يتعامل معهم بلين ورفق وتواضع،‮ ‬وقد فعل صلوات الله وسلامه عليه ما طلبه منه خالقه،‮ ‬وكان المثل الأعلى في‮ ‬التواضع ولين الجانب،‮ ‬والتعامل الراقي‮ ‬مع الناس جميعاً،‮ ‬ولذلك كسب القلوب واستحوذ على النفوس، وكان الجميع‮ ‬يقدر له تواضعه وحسن خلقه في‮ ‬التعامل مع البسطاء والضعفاء من الناس والتوجيهات النبوية وقصص تواضعه كثيرة ومتنوعة ولا‮ ‬يتسع لها المقام هنا‮.‬ الأسوة الحسنة يقول د‮. ‬القوصي‮: ‬لقد استطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم بتواضعه الفريد،‮ ‬وبأسلوبه الراقي‮ ‬في‮ ‬التعامل أن‮ ‬يكسب قلوب الناس،‮ ‬وأن‮ ‬يحقق نتائج جيدة لدعوة الحق التي‮ ‬كلفه الله بنشرها بين الناس لهدايتهم،‮ ‬وبالرفق والرحمة،‮ ‬التف الناس حوله،‮ ‬واجتمعوا على كلمة الحق والهدى،‮ ‬وفي‮ ‬هذا توجيه للعلماء والدعاة والمصلحين بأن‮ ‬يأخذوا الأسوة الحسنة من نبيهم الكريم صلوات الله وسلامه عليه،‮ ‬فيحرصوا على الرفق واللين والرحمة مع من‮ ‬يتعاملون معهم،‮ ‬ويدعونهم إلى طريق الحق والخير،‮ ‬فالغلظة والقسوة تقيم حواجز بين الدعاة والمصلحين والجماهير على اختلاف توجهاتها،‮ ‬وهذا ما نبه الخالق سبحانه رسول الإنسانية إليه في‮ ‬قوله عز وجل‮: ‬فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظاً‮ ‬غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم، وشاورهم في‮ ‬الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله، إن الله‮ ‬يحب المتوكلين‮.‬ تروي‮ ‬لنا كتب السنة النبوية روايات صحيحة تكشف عن نماذج من تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم،‮ ‬وتؤكد كل الروايات أنه‮، ‬صلوات الله وسلامه عليه‮، ‬كان المثل الأعلى في‮ ‬التواضع ولين الجانب،‮ ‬فكان‮ ‬يجيب دعوة العبيد،‮ ‬ويأكل مع الخادم،‮ ‬ويجالس المساكين،‮ ‬ويخدم أهله‮.. ‬هذا فضلاً‮ ‬عن توجيهاته الكريمة، ووصاياه الصادقة التي‮ ‬تحث على خلق التواضع،‮ ‬وتدعو إلى كل ما فيه حسن الخلق في‮ ‬التعامل مع الناس جميعاً،‮ ‬وهذا كله فيه مصلحة حقيقية للإنسان،‮ ‬فالتواضع الصادق‮، ‬كما‮ ‬يقول د‮. ‬القوصي‮، ‬يرفع من قيمة صاحبه،‮ ‬ويعلي‮ ‬من منزلته عند الناس،‮ ‬فضلاً‮ ‬عما‮ ‬يترتب على هذا التواضع في‮ ‬الآخرة من مثوبة وأجر ومكافأة إلهية،‮ ‬يقول صلى الله عليه وسلم في‮ ‬الحديث الصحيح‮: ‬ما نقصت صدقة من مال،‮ ‬وما زاد الله عبداً‮ ‬بعفو إلا عزاً،‮ ‬وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله‮.‬ التواضع‮.. ‬لمن؟ لكن‮.. ‬من الذين‮ ‬ينبغي‮ ‬أن‮ ‬يتواضع لهم المسلم؟ يقول الإمام القرطبي‮ ‬في‮ ‬تفسيره إجابة عن هذا السؤال‮: ‬المتواضَع له هو الله تعالى‮. ‬ومن أمر الله بالتواضع له كالرسول والإمام والحاكم والعالم والوالد‮. ‬فهذا هو التواضع الواجب المحمود الذي‮ ‬يرفع الله به صاحبه في‮ ‬الدارين‮.‬ وأما التواضع لسائر الخلق‮. ‬فالأصل فيه أنه محمود ومندوب إليه ومرغب فيه‮. ‬إذا قصد به وجه الله تعالى‮. ‬ومن كان كذلك رفع الله قدره في‮ ‬القلوب،‮ ‬وطيب ذكره في‮ ‬الأفواه،‮ ‬ورفع درجته في‮ ‬الآخرة‮.‬ وأما التواضع لأهل الدنيا، ولأهل الظلم فذاك الذل الذي‮ ‬لا عز معه،‮ ‬والخيبة التي‮ ‬لا رفعة معها،‮ ‬بل‮ ‬يترتب عليه ذل الآخرة‮.‬ ومن النص السابق‮ ‬يقسم الإمام القرطبي‮، ‬رحمه الله‮، ‬التواضع بين‮ (‬واجب،‮ ‬ومندوب،‮ ‬ومحرم‮) ‬فالتواضع الواجب‮ ‬يكون لله عز وجل أولًا،‮ ‬فهو الملك الحق المبين،‮ ‬والنافع الضار،‮ ‬المحيي‮ ‬المميت،‮ ‬المنعم بكل النعم قال سبحانه‮: ‬وما بكم من نعمة فمن الله‮.‬ وبعد الخالق سبحانه‮ ‬يجب التواضع لكل من له فضل على الإنسان،‮ ‬وأمر الله عز وجل بالتواضع له،‮ ‬كالرسول،‮ ‬والإمام،‮ ‬والحاكم،‮ ‬والعالم،‮ ‬والوالد‮.‬ ويؤيد ويساند تصنيف القرطبي‮ ‬للتواضع‮، ‬كما‮ ‬يقول عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر‮، ‬وجود نصوص قرآنية عديدة تحث على التواضع للنبي‮ ‬صلى الله عليه وسلم،‮ ‬كما في‮ ‬قوله تعالى‮: ‬يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين‮ ‬يدي‮ ‬الله ورسوله، واتقوا الله إن الله سميع عليم‮. ‬يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي‮، ‬ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون‮.‬ وفي‮ ‬التواضع للإمام والحاكم‮. ‬يروى أن أبا سفيان دخل على سيدنا عمر‮، ‬رضي‮ ‬الله عنه‮، ‬في‮ ‬خلافته وتقدم من كبار الصحابة،‮ ‬وهو مع صحبته من سادات قريش، ولكنه تقدم‮ ‬غيره من كبار الصحابة ممن كان‮ ‬يتقدمهم في‮ ‬الجاهلية قبل الإسلام،‮ ‬فعلاه سيدنا عمر بالدرة‮ (‬وهي‮ ‬التي‮ ‬كانت تلازمه‮)‬،‮ ‬وقال له‮: ‬أقبلت لا تهاب سلطان الله في‮ ‬الأرض،‮ ‬فأحببت أن أعلمك أن سلطان الله لا‮ ‬يهابك‮.‬ والتواضع للوالدين، جاءت نصوص قرآنية وتوجيهات نبوية كثيرة تحث عليه،‮ ‬من بينها قوله تعالى‮: ‬وقضى ربك ألّا تعبدوا إلّا إياه وبالوالدين إحساناً‮ ‬إما‮ ‬يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً‮ ‬كريماً‮ ‬واخفض لهما جناح الذل من الرحمة‮. ‬فهذا نص فيه وجوب التواضع للوالدين‮. ‬وهذا‮ ‬يعني‮، ‬كما‮ ‬يقول القرطبي‮: ‬خفض الجناح ولين الجانب والانكسار بين أيديهما‮.‬ أما التواضع لسائر الخلق فقد ضرب لنا سيدنا رسول الله‮، ‬صلى الله عليه وسلم‮، ‬المثل الأعلى في‮ ‬التواضع لسائر الخلق،‮ ‬وفي‮ ‬سيرته وسنته الكثير من النماذج العملية للتواضع لسائر الخلق من سيد المتواضعين‮، ‬صلى الله عليه وسلم‮. ‬وقناعة رسول الله صلى الله عليه وسلم هنا أن التواضع‮ ‬يرفع من شأن صاحبه رفعة حقيقية،‮ ‬وأن ضعاف الشخصية من الناس هم الذين‮ ‬يعتقدون أن الكبرياء الزائف‮ ‬يرسم لهم صورة جيدة في‮ ‬عيون الناس وهم مخطئون‮ ‬يجهلون قيمة التواضع‮.‬ روى أنس رضي‮ ‬الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على صبيان فسلم عليهم‮. ‬وكان السلام على الصغار سلوكاً‮ ‬نبوياً‮ ‬كريماً‮ ‬لأن فيه إشاعة لإلقاء السلام،‮ ‬فمن‮ ‬يسلم على الصغير لا‮ ‬يترك السلام على الكبار،‮ ‬ومن‮ ‬يسلم عليه صغيراً‮ ‬يعتاد السلام كبيراً‮.‬ وكان من صور تواضعه عليه الصلاة والسلام خدمته لأهله‮.. ‬يقول‮ ‬الأسود بن‮ ‬يزيد‮: ‬سألت عائشة‮، ‬رضي‮ ‬الله عنها‮، ما كان النبي‮ ‬يصنع في‮ ‬بيته؟ قالت‮: ‬يكون في‮ ‬مهنة أهله‮ (‬تعني‮ ‬خدمة أهله‮) ‬فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة‮.‬ فضيلة بين رذيلتين وحتى لا تختلط الأوراق في‮ ‬ذهن وسلوك أي‮ ‬مسلم‮ ‬يوضح العالم الأزهري،‮ ‬د‮. ‬أحمد عمر هاشم،‮ ‬أستاذ السنة النبوية وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر‮، أن التواضع في‮ ‬صورته الحقيقية‮ ‬فضيلة بين رذيلتين‮.. ‬الرذيلة الأولى هي‮ ‬الذل والمسكنة‮ ‬وهذه صفة لا تليق بمسلم حباه الله بكل ما‮ ‬يجعله عزيزاً‮ ‬يعيش مرفوع الرأس،‮ ‬ورسول الله صلى الله عليه وسلم‮، ‬يقول هنا‮: ‬طوبى لمن تواضع في‮ ‬غير مسكنة، وأنفق مالاً‮ ‬جمعه في‮ ‬غير معصية،‮ ‬ورحم أهل الذل والمسكنة،‮ ‬وخالط أهل الفقه والحكمة‮.‬ والرذيلة الثانية‮: ‬هي‮ ‬الغرور والاستعلاء والتكبر‮.. ‬والغرور آفة الآفات،‮ ‬وأخطر الرذائل،‮ ‬ومهما اختال الإنسان وتكبر فإنه ضعيف،‮ ‬بل هو أضعف من الجمادات التي‮ ‬يظهر زهوه وخيلاءه فيها،‮ ‬فالأرض التي‮ ‬يمشي‮ ‬عليها مهما ضربها بقدميه فلن‮ ‬يخرقها،‮ ‬والجبال التي‮ ‬يراها مهما اشرأب بعنقه وتطاول بقامته فلن‮ ‬يبلغ‮ ‬طولها،‮ ‬فعلام الكبر؟ قال الله تعالى‮: ‬ولا تمش في‮ ‬الأرض مرحاً‮ ‬إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ‮ ‬الجبال طولاً‮.‬ صانع التوازن وهكذا‮ ‬يتضح لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو صانع التوازن الحقيقي‮ ‬في‮ ‬سلوك المسلم،‮ ‬فهو‮ ‬متواضع قوي‮ ‬وعزيز‮‬،‮ ‬حيث علمنا عليه الصلاة والسلام من خلال سلوكيات عملية أن القوة لن‮ ‬يصنعها الكبرياء الزائف،‮ ‬وأن رقي‮ ‬الإنسان وتحضره‮ ‬يبدو واضحاً‮ ‬في‮ ‬تواضعه وحسن خلقه مع الضعفاء،‮ ‬وأن الكبرياء والتعالي‮ ‬على الناس والسخرية من البسطاء منهم،‮ ‬والبلطجة في‮ ‬التعامل معهم لن تجلب للإنسان احتراماً‮ ‬وتقديراً‮ ‬من أحد،‮ ‬كما‮ ‬يعتقد بعض السفهاء هنا وهناك‮.‬ علمنا صلوات الله وسلامه عليه أن التحضر والرقي‮ ‬الإنساني‮ ‬يفرض على صاحبه أن‮ ‬يتعامل مع الناس بتواضع، وأن‮ ‬يحترم مشاعرهم ويقدر إمكاناتهم ويراعي‮ ‬إنسانيتهم،‮ ‬وأن التواضع ليس مجرد فضيلة تجلب لصاحبها رضا الناس وحبهم وتقديرهم بعد رضا الله عز وجل،‮ ‬بل هو قيمة إيجابية تحسن العلاقة بين الناس وتنشر المحبة والمودة بينهم‮.‬ ما أحوجنا نحن المسلمين إلى التخلق بأخلاق رسول الإنسانية حتى نجلب لأنفسنا رضا الخالق والمخلوق‮.‬

مشاركة :