الرياض - نجحت السعودية في توجيه رد قاس لتركيا من خلال مقاطعة واسعة دون قرار معلن، وذلك كرد على الإساءات الكثيرة التي صدرت من المسؤولين الأتراك تجاه المملكة سواء من خلال قضية مقتل جمال خاشقجي أو من خلال حملات سياسية موجهة ضد الدور السعودي في قضايا المنطقة، وهو دور بدا الأتراك منزعجين منه وسعوا لتعويضه وفشلوا. وانتشرت الدعوة إلى المقاطعة بسرعة كبيرة لتصبح عنوانا لحضور السعوديين على مواقع التواصل، ثم تحول الأمر إلى واقع من خلال حث مسؤولين محليين في قطاعات التجارة والصناعة المواطنين على مقاطعة المنتجات الوافدة من تركيا أو التي تحمل علامة تثبت أنها صنعت في تركيا، وهو أمر أزعج رجال الأعمال في تركيا وبات ورقة ضاغطة على الرئيس رجب طيب أردوغان. وقال رئيس اتحاد المقاولين الأتراك، مدحت يني قون، لصحيفة "جمهورييت" التركية المعارضة "لقد تعرض مقاولونا في الشرق الأوسط لخسارة تقدر على الأقل بثلاثة مليارات دولار في السنة الماضية، نتيجة الانطباع الذي تشكّل ضد تركيا". وأطلق عجلان العجلان رئيس مجلس إدارة الغرفة السعودية بالرياض اللاءات الثلاث في وجه الاقتصاد التركي، داعيا إلى عدم التعامل مع الأتراك لاستمرار إساءتهم إلى القيادة السعودية. وقال العجلان "لا استثمار.. لا استيراد.. لا سياحة.. نحن كمواطنين ورجال أعمال لن يكون لنا أي تعامل مع كل ما هو تركي". ويرى مراقبون أن الرئيس التركي لا يستطيع أن يفعل شيئا تجاه الموقف السعودي، فالأمر يبدو في صورة مقاطعة شعبية تلقائية لا يمكن بأي حال لوم القيادة السعودية عليها أو اتخاذها مبررا لحملة إعلامية كتلك التي اعتمدها الأتراك في قضية خاشقجي، أو البحث عن وساطات للتدخل. كما أن هذا المسار سيساعد السعودية على تجنب الجدل الذي رافق قرار مقاطعة قطر. كما أن الصمت يجعل أردوغان في موقف صعب، كونه بات يتهم في تركيا بالتسبب في أزمة جديدة ستزيد من إرباك الاقتصاد التركي المنهك، وأنه سيراكم الصعوبات بالنسبة إلى رجال الأعمال الأتراك الذين حققوا مكاسب كثيرة من الانفتاح على الخليج في سنوات ماضية. وما يزيد من حدة الأزمة أن المقاطعة لم تقف عند المنتجات التي تورّدها شركات تركية للسعودية، وإنما اتسعت لتشمل أي واردات لشركات عالمية منتجة في تركيا، ما يوسع دائرة الخسائر لتطال الشركات الدولية التي تستثمر في البلاد ويدفعها إلى البحث عن دول أخرى تستثمر فيها. وكشف تقرير بريطاني عن تضرر الاقتصاد التركي بشدة نتيجة الحظر السعودي غير الرسمي على البضائع التركية، مشيرا إلى أن تجار التجزئة في الأزياء العالمية تضرروا أيضا نتيجة هذا الأمر. وأوضحت صحيفة فاينانشيال تايمز البريطانية أن شركة مانغو الإسبانية تبحث عن موردين بدلاء لأنقرة باعتبار أن سلعها مصنوعة في تركيا ومحصورة في التنافس والعرض بين أنقرة والرياض. وذكر تقرير الصحيفة أن الحظر السعودي على السلع التركية ضرب ماركات الأزياء العالمية مثل مانغو وزارا في أحدث علامة على التنافس المتصاعد بين القوى الإقليمية. وأوضح موظف في مجموعة الملابس مانغو الإسبانية أن السعودية حظرت جميع الواردات للمنتجات المصنوعة في تركيا، فيما ذكرت الشركة الإسبانية أن فرقها تبحث عن بدائل لإبطاء العمليات المخصصة للمنتجات ذات الأصل التركي في المملكة العربية السعودية. وكشف مصطفى غولتيبي، رئيس اتحاد مصدري الملابس في إسطنبول عن أن جميع تجار التجزئة المنتجين في تركيا والمصدرين إلى السعودية تأثروا بهذا القرار. وشكا المصدرون الأتراك من أن منتجاتهم واجهت تأخيرات طويلة في الجمارك السعودية خلال الشهر الماضي. وتنظر الشركات إلى المشاكل على أنها محاولة من جانب السعودية وحليفتها الوثيقة الإمارات لمعاقبة أنقرة على تدخلاتها المزعزعة للاستقرار في العالم العربي. وأصبحت علاقات تركيا مع السعودية والإمارات، أكبر اقتصادين في الشرق الأوسط، أكثر توترا من أي وقت مضى حيث تتهم الرياض وأبوظبي أردوغان بالتدخل في الشؤون العربية ودعم الجماعات الإسلامية، إلى جانب التدخل في ليبيا ودعم الجماعات المسلحة. ويشعر أردوغان بالقلق من أن تتحول المقاطعة الضمنية إلى حصار شامل قد يمتد من السعودية إلى دول خليجية وعربية أخرى ستختار الوقوف إلى جانب السعودية التي تمتلك شبكة قوية من الاستثمارات والتمويلات والمساعدات لمعظم الدول العربية، وهو ما قد يحوّل المقاطعة السعودية الصامتة إلى نموذج لمقاطعة عربية أشمل خاصة أن هذا النموذج يجنب الدول والجهات الرسمية أي إحراج سياسي. ويشير متابعون للشأن الخليجي إلى أن أردوغان أخطأ في تقدير قوة ونفوذ السعودية في السنوات الماضية حين كان يتوقع أن يبتزها من خلال ضغوط سياسية وإعلامية لتكون في خدمة اقتصاده، لافتين إلى أن السعوديين، الذين يتجنبون إصدار البيانات وخوض المعارك الإعلامية، يعرفون متى يوجهون الضربة التي ترد لهم الاعتبار وتوصل الرسالة اللازمة إلى خصومهم. ويراهن الرئيس التركي على شعبيته في الأوساط السرورية الإخوانية في السعودية، وهي الآن كامنة بانتظار اللحظة المناسبة، إلا أن القيادة السعودية الجديدة تستطيع أن تقطع على أردوغان طريق أي مناورة جديدة عبر افتعال أزمات أو تسريب ملفات، خاصة أنها رفضت في أكثر من مرة الابتزاز من دول أكثر أهمية من تركيا. ولم يكن الغضب السعودي الشعبي والرسمي على تركيا ناجما عن قضية خاشقجي وما تبعها من هجمات تركية ومحاولات إساءة إلى المملكة وقياداتها، وإنما بدأ منذ أن سعى أردوغان لضرب السعودية كقوة سنية رئيسية في الشرق الأوسط والسطو على نفوذها الاعتباري من خلال التحالف مع المشروع الإيراني الطائفي، وعبر أدوات سنية مثل حركة حماس وفروع الإخوان المسلمين في المنطقة.
مشاركة :