يجتهد الكاتب الصحفي كثيرا في توضيح نواياه أحيانا، إلى درجة مبالغ فيها حتى لتفسد عليه المبالغة الشديدة رشاقة الأسلوب وطلاوة الكلام وخفة المعنى، وهو يتحمل هذه الضريبة الثقيلة على نفس أي كاتب محترف فقط ليسد أي منفذ يمكن أن ينفذ من خلاله سوء الفهم، لكنه بدلا من النجاح في هدفه يفاجأ بسوء الظن بديلا، فلا هو الذي حافظ على طريقته المحببة في الكتابة ولا هو الذي نجح في إيصال فكرته كما اشتهى وخطط، وكما قصد فعلا. من المبالغات التي يلجأ إليها الكاتب الصحفي على هذا الصعيد استخدام بعض الحيل الكتابية التي تودي بمقالته الى المباشرة الفجة أحيانا، كأن يعمد الى إثقال فقراته بالمزيد من الجمل الشارحة والاستطرادات الاعتراضية، ومع هذا فقلما ينجو من سوء الفهم الناتج عن سوء الظن! لا شيء يؤلمني أثناء الكتابة الصحفية أكثر من اضطراري، أحيانا، لتقديم أفكاري أو آرائي حول أي قضية إشكالية من قضايا الساعة، بعبارات ليست ضرورية كما أرى، فقط لأدفع عن نفسي تهمة متوقعة قد يفهمها القارئ المتربص عندما يقرأ المقال. ولأنني أكتب كثيرا، ومنذ سنوات طويلة، وفي أكثر من مطبوعة وموقع إلكتروني، وبشكل يومي تقريبا، وعن قضايا كثيرة ومتنوعة، فهذا يحدث لي كثيرا للأسف، أو أنه أصبح يحدث لي في الآونة الأخيرة تحديدا. يحدث لسوء الحظ معي ومع غيري من الكتاب الصحفيين، كما رصدت ذلك من خلال متابعاتي في الأونة الأخيرة تحت ظلال الكتابة عن قضايا فكرية وسياسية وثقافية عامة تهم معظم القراء. ومع التمرس في الكتابة والنشر يتحول هذا السلوك، أعني التكلف باستخدام عبارات تقديمية تبريرية غير ضرورية في السياق، إلى سلوك خارج الكتابة أيضا، كأن أكتب مثلا؛ "مع أنني لست مع هذا الطرف إلا أنني أرى أنه على حق"!، بدلا من تبيان رأيي بأنه على حق، بغض النظر عن كوني مع أم ضده كما يفترض، أو كأن أقول لأحدهم أثناء الحوار معه مثلا؛ "مع احترامي الشديد لك إلا أنك غلطان"، بدلا من مواجهته بأنه غلطان بغض النظر عن احترامي أو عدم احترامي له.. والأمثلة كثيرة. ثم أن انتشار ما نكتب في دائرة أوسع من دوائرنا التقليدية داخل مجتمعاتنا المحلية، بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، ساهم في زيادة طين هذا الوضع بلة فوق بلة، وأغرقنا معه في مستنقعات السوء فهماً وظناً. هي إذن شر لا بد منه غالبا، نلجأ إليها باعتبارها دليل براءة على تهمة متوقعة بالانحياز أحيانا، وأحيانا توكيدا لموضوعية رأينا وعدالته في موازين القول والكتابة أحيانا أخرى .. لكنها على أية حال ليست علامة صحة وعافية، بل دليل مرض إعلامي يجتاح مجتمعاتنا ولم نعد نقوى على دفعه بطرقنا الكتابية التي نحبها ونشتهيها وحدها!
مشاركة :