التَّخييل.. سلطان الرواية

  • 10/15/2020
  • 00:07
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

التخييل هو الفعل الأهم في البنية الأدبية، السردية على وجه الخصوص.. فهو الذي يؤثث النص بالشخصيات والوقائع والأمكنة والأزمنة، والهزات التي تمنحنا، نحن القراء، انطباعًا عميقًا بالحقيقة التي ليست في النهاية إلا حقيقة افتراضية لا تتعدى عتبات الأدب والنص المقروء.. لكن قوة التخييل تدفع بها إلى الأمام بحيث تتحول إلى حقيقة ملموسة، على الرغم من أنها لا تنشأ إلا في سياق التجريد اللغوي.. أكثر الواقعيات تشددًا وارتباطًا بالواقع الموضوعي والحقيقة المجردة، لم تستطع أن تتخلص من فعل التخييل، بل كان دومًا ركيزتها وإلا خسرت مشروعها الأدبي، القصصي والروائي والحكائي.. بدون التخييل المتحرك والدينامي، ينتفي شيء اسمه رواية.. حتى إميل زولا، الذي تأثر بالعلوم التجريبية، وكان يريد في مؤلفه التنظيري: الرواية التجريبية الذي أصدره في 1880، رواية مجردة من كل الزوائد، رواية قريبة من العلم والحقيقة، لأن هدفها في النهاية توصيل معرفة واقعية وليس شيئا آخر، ونسي زولا لحظتها أن الرواية موصلة أيضا لقيم جمالية تتأسس على اللغة وليس على شيء آخر، ويقف على رأس هذه القيم المعمار التخييلي.. قبل أن يتراجع لاحقًا عن الكثير من المفاهيم العلمية الجامدة، التي حاول تطبيقها على الأدب لكنها لم تنتج شيئا بالمقابل.. ترك فكرة العلم، واتجه بنصه نحو الأدبية والتخييل اللذين بدون حضورهما، يفقد الأدب جوهره الفعلي الذي تأسس من أجله.. وكل كتاباته التي تلت مشروعة الجامد والمؤقت، تجلى فيها التخييل بقوة من حيث الشخصيات أو القضايا التي أثارتها نصوصه الروائية.فقد راهنت الرواية على التخييل الذي يشكل عمودها الفقري الأساس.. حاولت أن توسع من مجالاته من خلال الأجناس الأدبية الروائية السردية.. في كل مرة، يلبس التخييل لباس السمة الواصفة للنوع، كالرواية الاجتماعية، البوليسية، التاريخية، النفسية، التجريبية، الأسطورية... وفي ذلك كله، كانت الرواية تستكشف مساحات جديدة في عالمها الغني، الذي تقاسمته الأنواع الفرعية كالتاريخ الذي منح للرواية عالمًا مغلقًا استطاعت أن تخترقه وتظهر خفاياه وأسراره بمنظورها السردي، مثل النوع البوليسي الذي وفر لمتخيلها غنى جديدًا وحركية لم تكن متوفرة في السرد التقليدي.. وتوغلت الرواية في الأعماق النفسية من خلال الرواية النفسية قبل أن تبني معمارًا حقيقيًا ظل دفينًا في داخل الإنسان.. تشكلت من خلال هذه الممارسات الأدبية واقعيات متعددة.. من الواقعية الأوروبية التي راهنت على رجل المستقبل الذي ينتصر للعقل، خارج المنظومة الدينية التي كانت مهيمنة ومسيطرة على العقل الذي تراجع في العصور الاقطاعية التي تكاد تعتبر العقل جريمة.. ومن خلال هذا المنظور تعتبر المرأة مثلا مجرد وسيلة لمتعة الرجل، وجعلت من الانعتاق من الظلم الإقطاعي والبرجوازي لاحقًا موضوعتها الأساسية في المجتمع.. فخلقت متخيلا مبينًا من العناصر المكونة للفترة الإقطاعية.. من سمات التشكيلة الاجتماعية، أسست مشروعها الأدبي.. واقعية القرن التاسع عبرت عن ذلك بقوة كبيرة، على الرغم من تنوعاتها المختلفة.. فقد خلق جيل من الروائيين العالميين، نماذج تخييلية حية انطبعت في الوجدان البشري وكأنها حقائق موضوعية ملموسة، بل أصبحت علامات مرجعية في الثقافة والحياة..لا أحد ينسى اليوم كازيمودو وحبه للغجرية إيزميرالدا في رواية نوتر دام لفكتور هوجو.. من ينسى شخصية كارمن التي أبدعها بروسبير ميرمي وجعل منها نموذجًا للمرأة الرافضة لكل ما يمس كرامتها وأنوثتها.. ولا إيما بوفاري التي أودت بها أحلامها الصعبة والمستحيلة إلى الضياع والانتحار، في رواية مدام بوفاري لغوستاف فلوبير.. لقد أعطى الروائيون لشخصياتهم الروائية النموذجية، ما يكفي من التخييل ليجعلوها موازية للحقيقة الموضوعة ومتوغلة فيها أيضًا.. بينما لم تكن هذه العناصر الموضوعية الخارجية إلا وسائله لتطويل عمليات التخييل التي تجعل من الرواية فعلا إبداعيًا وليس تاريخيًا.. الكتابة عين بشرية ورؤية عميقة تحويلية لكل ما تلمسه وليست مجرد كاميرا تلتقط بحيادية بحسب الوجهة التي توجه نحوها.. كل ما خلقه الروائيون من وقائع وشخصيات هو ليس الحقيقة ولكن ما يسميه النقاد الإيهام بالحقيقة.. عندما نقرأه، نظنه حقيقة موضوعية بسبب مرجعه، لكنه في النهاية لا يعدو أن يكون فعلا تخييليًا.. فالواقع المادي ليس إلا المادة الأولية التي يتم الاشتغال عليها ولا قيمة لهذه المادة خارج الأدب، فيه تنشأ وفيها تنتهي.. تصف ما يعتمل في المجتمع من ظلم ونضال، معتمدة على المعاينة الموضوعية وعلى الآليات الأدبية التي تجعل من النص الأدبي أدبًا في نهاية المطاف أو ما يسمى نقديًا شعرية الرواية حتى لا تنزلق نحو ترديد صور كأنها عملية نقل حرفي من المجتمع.

مشاركة :