من مبادرات الجامعة العربية (هل تذكرون الجنرال الدابي وإفشال مهمته؟) إلى الأمم المتحدة (هل تذكرون أنان والإبراهيمي ومؤتمري جنيف ولقاءات موسكو؟). كلها انتهت. الجميع شارك في إفشالها. النظام وجد فيها انتقاصاً من سلطته وسيادته، المعارضة التي لم تكن موحدة، وما زالت حتى اليوم، ولكل من الحلفاء برنامجه وأطماعه في بلاد الشام والعراق أيضاً. كل ذلك ساهم في إفشال تلك المبادرات، فكل طرف معني بالمسألة السورية كان يفضل الحل العسكري وكسر إرادة سورية الدولة والشعب، وتغيير سياساتها المتعلقة بالموقف من إيران وإسرائيل وأميركا وتركيا، ومن الوضع الجيواسترتيجي المتحوّل في الإقليم وخارجه، ولن نذكر الأطراف الضعيفة القادرة على التعطيل. بعد أكثر من أربع سنوات على الحروب في سورية وعليها، وطحن شعبها وتشريد نصفه، عادت المبادرات الديبلوماسية، والعسكرية أيضاً، إلى سابق نشاطها. هناك مبادرة روسية بالتفاهم مع أميركا، ومبادرة إيرانية «معدلة» سترسلها طهران إلى الأمم المتحدة بعدما تشاورت مع النظام وحلفائها الآخرين. وعلى أساسها انتقل الوزير وليد المعلم من طهران إلى مسقط للقاء المسؤولين العمانيين الذين اضطلعوا بدور فاعل في التقريب بين أميركا وإيران في مفاوضات الملف النووي. تدعو المبادرة الإيرانية المعلنة إلى: وقف النار، وإجراء انتخابات نيابية، ووضع دستور جديد يأخذ في الاعتبار مختلف مكونات الشعب السوري، وتشكيل حكومة وطنية جامعة. لكنها لم تذكر مصير الأسد الذي تعتبره واشنطن والرياض وأنقرة وكثير من العواصم فاقداً الشرعية، ما يوحي بأن تفاهماً ما حصل مع روسيا وأميركا على عدم ذكره، واعتبار بقائه تحصيل حاصل، مع تحديد صلاحياته ونقل بعضها إلى الحكومة العتيدة، فالمسؤولون الأميركيون، على سبيل المثال، يكررون قولهم أنه فقد الشرعية، لكنهم في الوقت ذاته لم يعودوا يدعون إلى رحيله. ويؤكدون دائماً وجوب المحافظة على الجيش ومؤسسات الدولة كي لا يحصل في سورية مثلما حصل في ليبيا والعراق، وتتحول إلى ملاذ للإرهاب، ما يعني أن إطاحته قد تؤدي إلى تفكيك هذه المؤسسات. تركيا وحدها تغرد خارج هذه المبادرات، معلنة البدء بغزو سورية، وإقامة منطقة عازلة بإشراف «المعارضة المعتدلة» التي تدربها بالتعاون مع الولايات المتحدة، ومعظم عناصرها من التركمان الموالين لها. هدفها ليس إعادة اللاجئين السوريين إلى هذه المنطقة، على ما أعلنت، بل تشكيل حاجز «تركماني» بين أراضيها والأكراد الذين يتعاونون مع الجيش النظامي ضد «داعش» و»النصرة» في الشمال السوري، وإيجاد «مكون» تابع لها يتكلم باسمها عندما يحين وقت المساومات والتسويات، أي الاعتماد على العنصر الإثني لتنفيذ سياسة قصيرة النظر، فقد ثبت فشل هذه السياسة في العراق وفي غير بلد. لتحضير المنطقة العازلة، اتخذت أنقرة خطوات عملية. غيرت رئيس الأركان. وبدأت إعادة نشر حلفائها من المنظمات المسلحة، بالتفاهم مع «جبهة النصرة» التي أخلت بعض مواقعها الحدودية وانتقلت إلى الداخل. وسمحت للطائرات الأميركية بالانطلاق من قاعدة إنجيرليك لضرب «داعش» في الداخل السوري. كان المؤمل إقامة هذه المنطقة العازلة في الشمال السوري بالتوازي مع أخرى مشابهة في الجنوب للضغط على النظام من الجهتين والوصول إلى حلب ودمشق، أي إلى العاصمتين الاقتصادية والسياسية، وخوض المعركة الفاصلة فيهما. لكن المهاجمين فشلوا في الجنوب، وبقي السيد أردوغان مصراً على المضي في تحقيق مخططه الذي وضعه منذ بداية الحرب قبل ما يزيد على أربع سنوات، وكانت واشنطن تعارضه وتطرح بدائل لم تحقق ما يريده الطرفان، أي إطاحة النظام، وذلك لأسباب كثيرة منها أن البديل (المعارضة) غير قادر على الإمساك بالحكم. والأهم من ذلك أن لكل من الحلفاء هدفه المختلف في «سورية الجديدة»، لا يجمعهم سوى العداء للنظام. المبادرات الديبلوماسية ما زالت في بداياتها وقد تفشل كما فشلت سابقاتها، أما المبادرة العسكرية فلها ركائز على الأرض بناها أردوغان وغيره منذ بدايات الحرب. لذا ليس مستغرباً أن ينجح الغزو. لكن ما سيخلقه من وقائع جديدة، مثل تصعيد الأكراد في الداخل التركي، وتحرك باقي المكونات فليست واضحة في ما يعلنه السلطان الجديد، وقد تأخذ المنطقة إلى حروب وفتن جديدة، فضلاً عن إطالة أمدها في سورية. لم يكن الجميع يفهم اللغة العثمانية. وليس الجميع يفهم التركية الآن فقد تغيرت حروفها!
مشاركة :