يرى الناقد والباحث مدحت صفوت أن المثقفين، قبيل الربيع العربي، كانوا منقسمين إلى فريقين، أولهما: نخبوي، لا ينشغل بقضايا الإنسان العادي، والثاني: ارتضى أن يكون ترساً في ماكينات طحن الفقراء وقهرهم. تلك الصورة يراها صفوت أصبحت أكثر سوءاً بعد أربع سنوات من الربيع العربي، باستثناء الفترة من 2011 2012 التي يعتبرها مداً ثورياً، تمثل في تشكيل ما عُرف باسم الدستور الثقافي الذي دافع بجدية عن حرية الإبداع ومفهوم الهوية. الخليج حاورت الناقد الشاب ليرسم لنا صورة للمثقف بعد أربع سنوات من الربيع العربي، فإلى نص الحوار. } المثقف الحقيقي كما يُعرّفه إدوارد سعيد في كتابه المثقف والسلطة هو ذلك الشخص الذي يُمثل صوت من لا صوت لهم، في ضوء ذلك، كيف ترى صورة المثقف بعد أربع سنوات من الربيع العربي؟ يترتب علينا بداية التوقف أمام صورة المثقف قبيل الربيع، وقبل التغيرات التي شهدتها المنطقة مع مطلع 2011، وتحديد إلى أي مدى كانت صورة المثقف قريبة من تلك التي رسمها إدوارد سعيد، والذي عني بها تحديداً أن المثقف دور يؤدى في المجتمع، وليس مجرد كتابات تنظيرية ومن وجهة نظري، كان المثقف قبيل ربيع 2011 مهمشاً، دون إرادته وبإرادته أيضا، فالمثقفون، في أغلبهم وليس في عمومهم طبعاً، كانوا منقسمين إلى فريقين؛ أولهما: نخبوي يعيش في برجه، بعيداً عن قضايا المجتمع، أو بتعبير أدق، القضايا ذات الصلة المباشرة بالإنسان العادي، مفضلاً البقاء في الخانة الآمنة، وعدم الاشتباك مع الواقع المعيش وتبريره أحياناً، أما الفريق الآخر فيتمثل في أولئك الذين لم يضبطوا المسافة بينهم وبين المؤسسات المتهالكة والمتجذرة في التسلط، وارتضوا أن يكونوا ترساً في ماكينات طحن الفقراء وقهرهم، ما يعني أن المثقف وضع فاصلة، سواء كبرى أو صغرى، بينه وبين الناس ومؤسساتهم، أدت في النهاية لانعزاله بعيداً، حتى أصبح تأثيره كبقعة زيت على سطح المحيط بتعبير زكي نجيب محمود. } ألم تتغير الصورة قليلاً؟ مع اندلاع الانتفاضات والاحتجاجات تهيأت الساحة لأن يلعب المثقف دوراً تجاه قضايا مجتمعه، وبالفعل استغل عدد منهم هذه الفرصة، وتشكلت ضمن ما تشكل في مصر، مجموعة عُرفت باسم الدستور الثقافي، ضمت عدداً كبيراً من المثقفين، كانت في جوهرها حركة تدافع عن حقوق وحريات التعبير والفكر والإبداع، كذلك الدفاع عن مفهوم الهوية بوصفها متعددة الأبعاد وغير مختزلة في بعد واحد، كما اتجه المثقف ببصره إلى الماضي رافعاً شعار التمسكُ بالماضي مَدخل للفناء، قبل أن يُصاب قطاع كبير من الكتاب بإرهاب الإسلاميين، فيركن إلى موقعه الأول غير متصل بالواقع أو مبرراً له، بالتأكيد ثمة استثناءات لكننا نتحدث عن السياق العام والعناصر المهيمنة. } ما مدى تأثير المثقف في عصر مواقع التواصل الاجتماعي؟ السؤال الأدق هل دخل المثقفون عصر التقنيات الحديثة؟ صحيح أن المثقف يغرد على تويتر، ويدون بفيس بوك، ويستخدم يوتيوب في نشر محاضراته، ومواقع الكتب الإلكترونية في إتاحة مؤلفاته، لكنني ألاحظ أن أغلب القضايا التي تدور في نقاشات المثقفين هي ذاتها قضايا بداية النهضة العربية في منتصف القرن التاسع عشر، فلا يزال المثقف العربي، في جلّه وليس في مجموعه، يتحدث عن الثنائيات التي شغلت تفكير رفاعة الطهطاوي، ومحمد عبده، وطه حسين، أبرزها الشرق والغرب، الأصالة والمعاصرة، وأغلب الكتابات يدخل لمعالجة هذه الثنائيات بالأدوات القديمة ذاتها، ويتكلم المفكرون دون أن نقع في التعميم عن التوفيق بين الوافد والمستقر في الثقافة، ما يعد سبباً من أسباب إخفاق النهضة العربية، والتوفيق ليس أداة منعزلة عن السياق، وإنما كان نتاجاً لطبيعة التناقضات الاجتماعية والسياسية التي يعيشها المجتمع منذ منتصف القرن التاسع عشر، وكانت نظرة التوفيق منسجمة مع طبيعة البرجوازية القائمة التي لم تنجز ثورة تقضي على الموروث وتؤسس بديلاً جديداً، بل كانت صحوة حاولت التوفيق بين الموروث والوافد، بمعنى أنها لم تكن ثورة على القديم بل انتقت منه أسس صيغتها الجديدة، كما انتقت من الوافد ما يلائم هذا الموروث المنتقى، ما يعني أن المثقف لا يزال يلجأ إلى النهضة سابقة التعليب، والجاهزة، ظناً منه أنه بهذه الطريقة سيلحق بركب التقدم، وهو ما يجعل جيل مواقع التواصل تنظر إليه بريبة، وتعتبره واحداً من أهل الكهف فلغته أشبه بالعملة التي لم تعد تعرفها الأجيال، وأطروحاتهم كأنها نقوش متحفية تجاوزها الواقع كثيراً. } هل لا تزال شخصية المثقف فاعلة وموجودة في الفنون والآداب حيث يُلاحظ تراجع تلك الشخصية في الرواية والسينما والدراما؟ في اعتقادي أن صورة المثقف في الأدب الرواية تحديداً ليست هي الصورة ذاتها في السينما والدراما، وحتى في الكتابات التي تُعرف باسم البيست سيلر، فصورة المثقف في السينما والدراما سيطرت عليها الرؤية التنميطية الكاريكاتورية، ذلك الشخص الذي يحمل كتبه تحت إبطه ويتحدث بعبارات غير مفهومة، ناهيك عن الصورة الجسمانية لرجل ترك شعره أشعث أوامرأة منفتحة، ومنحلة أحياناً. النموذج الأحدث في الدراما رسمه يوسف معاطي، وجسده عادل إمام وهي صورة موجهة لأسباب منها في اعتقادي كراهية عدد من صناع الدراما والسينما لمفهوم الثقافة ذاته، لكن اللافت أننا يمكننا أن نقف على صورة المثقف العضوي بمفهوم أنطونيو غرامشي في الكتابات الأدبية بينما يدين واقعياً الأدباء هذه الصورة، ويعادون فعلياً أي مثقف عضوي على مستوى الخطاب أو الممارسة الفعلية بوصفها صورة قديمة. } هل انتقل المثقفون من مربع الثورة إلى مربع السلطة؟ أؤمن بما قاله الراحل نصر حامد أبو زيد.. على المثقف أن يكون حارس قيم لا كلب حراسة، عليه أن يصنع مسافة بينه وبين السلطة حتى وإن تبنت الأخيرة رؤيته وبرنامجه، وحال تبنيها مفاهيمه يبتعد قليلا ليراقب لا ليبرر، ليصوب لا أن يسهم في تلك البرامج، ولدينا تجربة سابقة بين السلطة والمثقف في مصر، وخاصة في الثمانينات، وفي ظل انتشار التطرف الأصولي، سعى جلُّ المثقفين نحو عقد اتفاق مع السلطات الحاكمة في مواجهة الأصولية في الثمانينات والتسعينات، ظناً من المثقف أن المؤسسة ضد الأصولية، لكنها، في جوهرها، أصولية، وإن تصدت لبعض مظاهر التطرف، وأثبتت ازدواجية المؤسسة ، ففي ذروة دعوتها للمثقف لمحاربة الفكر الأصولي، أسندت وضع المناهج التعليمية، إلى أصولي من نوع آخر. وللأسف يبرر بعض المثقفين عنف الدولة وتراجع سقف الحريات باسم مواجهة التطرف، فضلاً عن أن المثقف ذاته بات سلطوياً، الأمر الذي كشفته الأزمة الأخيرة مع وزير الثقافة في مصر، وتلويح عدد من الكتاب باتهامات الرجعية والانتماء إلى جماعات التطرف لمجرد أن لك رأياً مخالفاً.
مشاركة :