العلمانية في مفهومها الشامل تعني: «فصل الدين عن الحياة»، بمعنى أن لا يكون للدين دور أو تأثير أو سلطة في كل مناحي الحياة، والممارسات الداخلة في تفاصيلها، وأن يبقى الدين مجرد روحانيات وطقوس تعبدية يمارسها الإنسان في دور العبادة، أما الحد الأدنى للعلمانية فهي فصل الدين عن الدولة أو السياسة حسب المفهوم الشائع. هذا الفصل بين الدين والحياة أو الدولة شكَّل للعلمانية في الغرب موقفًا واضحًا من الدين، قد يكون متسامحًا كما في بريطانيا والولايات المتحدة وغيرهما، أو معاندًا كما هو الحال فرنسا، التي تحارب الوجود أو الظاهرة الإسلامية في المجتمعات الأوروبية تحت شعار حماية الحياة العلمانية للمجتمع الفرنسي والأوروبي بشكل عام. فهل يبدو صحيحًا أن فرنسا تحارب الوجود الإسلامي - الذي يزداد انتشارًا - بحجة حماية علمانيتها، وبالذات مقدسات هذه العلمانية، التي تأتي على رأسها (حرية التعبير)، وفق ما جاء في خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عقب مقتل المعلم الفرنسي صمويل باتي، على يد أحد المسلمين الفرنسيين، لأن هذا المعلم عرض الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، التي أعادت نشرها صحيفة (شارلي إبدو)، بالتزامن مع محاكمة 14 متهمًا في الهجوم الذي وقع ضد هذه الصحيفة بشهر يناير 2015م، التي نشرتها أساسًا الصحيفة الدانمركية (يولاندس بوستن) في 2005م. لا شك أن مقتل ذلك المعلم الفرنسي جريمة مرفوضة ومدانة، كما أن المسلمين في فرنسا أدانوا هذه الجريمة، لأنهم يرفضون القتل، ولا يؤمنون بالعنف وسيلة للتغيير، ولأنهم ضمن النسيج الفرنسي، يدركون تمامًا أنهم يعيشون في دولة علمانية تعتبر حرية التعبير من مقدساتها؛ لكنهم أيضًا يرفضون الإساءة للأديان والرموز المقدسة تحت مزاعم هذه الحرية، لأن الإساءة للأديان ورموزه - كما هو الحال ضد الإسلام ونبيه عليه الصلاة والسلام - يحرض على الكراهية ويؤجج العنصرية، ويبرهن على حالة التطرف العلماني في فرنسا تجاه الإسلام. وقد اختصر حالة التناقض الفرنسي في ممارسة حرية التعبير وزير خارجية فنلندا بقوله: «لم أعد أفهم أي شيء، عندما نسخر من السود نسمي ذلك عنصرية، وعندما نسخر من اليهود نسمي ذلك معاداة السامية، وعندما نسخر من النساء نسمي ذلك تحيزًا جنسيًا، وعندما نسخر من المسلمين نسمي ذلك حرية تعبير». حتى عقلاء فرنسا أكدوا هذا الموقف الفرنسي المتناقض، أمثال الممثل الفرنسي الشهير جيرار دبارديو الذي يقول متسائلًا: «ماذا فعل المسلمون حتى نشتمهم؟ ماذا لو احترمنا دينهم؟». ثم يقول: «رئيسنا يفتقر إلى الخبرة وسيقودنا إلى الهاوية». باختصار العلمانية - وبالذات في فرنسا - لم تستطع أن تستوعب قدرة الإسلام الحضارية التي تجمع الدين بالمنهج الحياتي، لذا هو يتمدد في المجتمعات الأوروبية بشكل مذهل؛ كونه يجيب عن الأسئلة القلقة الكبرى للإنسان الأوروبي الذي عاش المادية ويبحث عن الاستقرار الروحي؛ وهذا ما جعل اليمين المتطرف في أوروبا يعمل على تشويه الإسلام والإساءة للرسول صلى الله عليه وسلم بحجة حرية التعبير.
مشاركة :