لو أردنا أن نجاري من يقدس إردوغان كرئيس يحمل بين جنبيه حلم الخلافة الإسلامية فإن من باب أولى الرضا بسلامة المنهج السياسي والاجتماعي الذي أوصله لكرسي الرئاسة تجربة تركيا في محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة التي حدثت في الخامس عشر من يوليو الجاري ألقت بظلالها على كثير من الدول، بالإضافة لأثرها على تركيا نفسها، وكان حجم الحدث في وجدان الشعوب بالغا خاصة لدى الشعوب العربية والإسلامية. بغض النظر عن الآثار السياسية التي حدثت وستحدث تباعا في أعقاب محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة، وعما سيتبعها من أثر اقتصادي داخل تركيا وخارجها، فإن تفاعل شريحة كبيرة من المواطنين السعوديين مع أحداث تلك الليلة كان كبيرا ومبالغا فيه، وينم في جوانب كثيرة عن نقص فادح في الوعي السياسي وربما - وهذا ما أتمنى أن أكون مخطئة فيه - أنه يشف عن نقص حاد في قيمة الوطن وقيم المواطنة. إن ردة الفعل المبالغ بها في الفرح بفشل الانقلاب العسكري تلك الليلة يدور فلكها لدى كثير من المنتشين بالنصر خارج رقعة تركيا حول شخص الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، وشخصيته التي ينظر لها البعض على أنها من البقية الباقية التي تمثل الدين الإسلامي رئاسيا، وأنه خليفة المسلمين المنتظر المخلص لهذه الأمة من ويلات تكالب الأمم عليها، وأنه من سيضع ميزان العدالة بين الشعوب المسحوقة، وغيرها من العبارات والتصورات التي لا تخرج عن تقديس الرؤساء والتي قد تصل بهم في بعض الأحيان إلى المبالغة في الوصف والمديح. هذه الهالة حول إردوغان التي استطاع بذكاء أن يرسمها حول شخصيته ويصورها بأنها المنقذ للإسلام مرجعها الحزب الذي ينتمي له، والذي يقوم على الشعارات الثورية والخطب الرنانة التي تدغدغ مشاعر البسطاء، وتثير المواقف التي تخدم وصوليتها فيتحلق حوله الحالمون بوهم الخلافة وانتصار الأمة الإسلامية. بعد هزيمة الخلافة العثمانية التي كانت حليفة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى وصل أتاتورك للسلطة، وهو المنبهر مسبقا بالحضارة الغربية، فقام بانتزاع تركيا من واقعها المحافظ والمتشدد في التمسك بالقيم الإسلامية وفرض عليها أنماطا من صور الحضارة الغربية دفعة واحدة شملت كل شيء، النمط السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فألغى السلطنة واستخدم الأنظمة الأوروبية في تأسيس مؤسسات مدنية واجتماعية، واستبدل الشريعة بالقوانين الوضعية، والحروف العربية باللاتينية والمظهر الإسلامي في الجلباب والعمامة بالمظهر الأوروبي والبدلة والقبعة، وفصل مظاهر الدين والتدين عن العمل السياسي، وغيرها من التغييرات القسرية التي واجهت ممانعة حتى من خارج الدولة التركية حينها –الأزهر على سبيل المثال- وسببت صدمة حضارية فارقة في الوعي الاجتماعي والسياسي للأتراك ذلك الوقت. فرض القيم العلمانية التي قام بها أتاتورك جعل الأجيال التالية في تركيا ترى أنه الأب الروحي لتركيا المتحضرة الحديثة، تركيا التي تنتخب برلمانها من مختلف أطياف الشعب، والتي تنزل للشوارع لتضع في صناديق الاقتراع صوتها لرئيسها القادم الذي تجمع عليه غالبية الأصوات، والتي تعبر بحرية في وسائل إعلامها وشوارعها وميادينها عن رغبات الشعب ومطالبه. تركيا التي تقف فيها المآذن بجوار المسارح وقاعات السينما والمراقص والبارات، ويسير على أرصفتها الحليق والملتحي، المحجبة والسافرة، دون أن يعترض أحد أو ينكر أحد من الشعب أو من خارجه، الشعب الذي أوصل إردوغان للرئاسة باختياره، والذي حينما حدثت محاولة الانقلاب العسكري الأخير نزل إلى الشوارع ليقف في وجه الدبابات والأسلحة دفاعا عن ذلك الاختيار الذي يملكه في تقرير مصيره، وعن صوته الذي منحه لرئيسه، وللديموقراطية التي ترعاها قيم العلمانية التي يعيش الشعب التركي في ظلها بانسجام وتصالح. إن ردة فعل الشعب التركي في رفض الانقلاب ليست لأجل شخص إردوغان بحد ذاته؛ بل من أجل حقوقهم، وليس من أجل سلسلة وهم الانتصار للأمة الإسلامية التي يتغنى بها الكثير بل من أجل وطنهم تركيا وحدها، وليس من أجل الخلافة الإسلامية المزعومة بل من أجل العلمانية التي ترعاها دولتهم وتضمن لهم الاستمرار في عالم متحضر قائم على دولة ذات مؤسسات مدنية حرة، والتي يقف إردوغان ورؤساء تركيا الـ11 قبله تحت صورة أتاتورك مؤسس تركيا الحديثة وبطلها القومي. ردة فعل من فرح بحدوث الانقلاب ومن فرح بفشله من مواطني وطني السعودية هي كما ذكرت سابقا دليل على غباء سياسي وقصور في الوعي بحقيقة الدول المدنية، فهؤلاء الفرحون إما ممن يقف ضد أو يؤيد حزب إردوغان ويخلص لقيم الأمة -وكلمة الأمة تحمل إشكالا كبيرا وتستحق مقالا مستقلا- وهؤلاء المنتمون والمتعاطفون مع جماعة الإخوان، حزب إردوغان، انكشفت مؤامراتهم وأهدافهم للجميع ومن ضياع الجهد والوقت التوسع في الحديث عنهم، والفئة الثانية من بقية جوقة الفرحين هم ممن انقاد خلف فئة الحزبيين هذه والذين يرون فيها بسذاجة انتصارا للإسلام وبعض الجمر النائم لمفهوم الخلافة الإسلامية تحت رماد حرائق أتاتورك لها بنار العلمانية. بينما ردة فعل الشعب التركي المتحضر تلك الليلة كانت من أجل الشرعية التي منحوها أصواتهم والتي تنطلق من وعي سياسي وحب لوطنهم من ويلات الانقلابات العسكرية، ومن أجل الديموقراطية التي تُسقط أي استبداد ضد حقوقهم الوطنية. نجاح أو إخفاق إردوغان في سياسته الداخلية والخارجية وفي إدارته لشعبه شأن يخص تركيا والأتراك وحدهم، ولو أردنا أن نجاري من يقدسه كرئيس دولة يحمل بين جنبيه حلم الخلافة الإسلامية وزعامة الأمة فإنه من باب أولى الرضا بسلامة المنهج السياسي والاجتماعي الذي أوصله لكرسي الرئاسة، وهو بلا شك المنهج الذي فرضه مصطفى كمال أتاتورك على أنقاض السلطة العثمانية، وعاشت في كنفه تركيا تاريخا متحضرا حافلا، فهل يستطيع الفرحون بفشل الانقلاب العسكري بين ظهرانينا الاعتراف بأن العلمانية هي الحل؟
مشاركة :