افتتن أنيس منصور بالصحافة والفلسفة والسفر والمرأة والسياسة والغرابات. وكان له شغف واحد: الصحافة. بدأها ومصر في فيض من الفكر والشعر والبحث والترقّي، شبَّ ومن حوله أعمدة من الكبار مثل أعمدة تدمر، أو بعلبك، أو الأكروبوليس في أثينا: زمن شوقي في القصيد، وأم كلثوم في الخدر الرخيم، وطه حسين في النقد، والعقاد في قراءة (وكتابة السِيَر)، وعبد الوهاب في الموسيقى، وتوفيق الحكيم في المسرح التاريخي، ونجيب محفوظ في الرواية، وأثر سعد زغلول وطلعت حرب والنحاس ومكرم عبيد في كل مكان. عندما دخل الصحافة، كانت للنيل ثلاث ضفاف، الثالثة من ثلاثة ألوان، الأبيض والأزرق والحبر. شغفه الحبر حبًا كما شغف امرأة العزيز. وفي سبيله سافر في أنحاء الأرض من أجل أن يكتب عن جهاتها الأربع. وقد قال إن «كتب الرحلات هي أعماق هذه الدنيا، ولذلك، كانت أروع الرحلات هي التي نقوم بها في رحلات الآخرين. نرى بعيونهم ونسمع بآذانهم، ونمشي الدنيا معًا». صدر كتابه «حول العالم في 200 يوم» في طبعات كثيرة، وسرق في طبعات كثيرة. وقدم محمود تيمور للطبعة الثانية، فيما قدم طه حسين للطبعة الثالثة، وفيها يقول العميد: «من المحقق أن هذه الرحلة الرائعة يمكن أن تقرن إلى الرحلات العربية القديمة، ومن يدري لعلها تمتاز عنها ببعض الخصال». كان أنيس من أكثر صحافيي العرب ثقافة واطلاعًا، ومن أغزرهم إنتاجًا. ومع ذلك، كانت نقطة ضعفه، التي لا تفسير لها، أمام الموقع أو المنصب أو القرب من الحاكم. كان ينتقد «فرعون» ويحبه ويطلب القرب منه. وما فاته أيام عبد الناصر بلغه أيام السادات، الذي استغل معرفة أنيس بالدول والشعوب. وكان أيضًا يطرب إلى حكاياته وأخباره عن الغرائب، وما إن يدخل عليه حتى يهتف ضاحكًا: «هات، ونِّسنا يا أنيس». وكان أنيس يمد يده إلى «سلّته» ويبدأ سردًا لا نهاية له. أما الرئيس حسني مبارك فكان يحرص على مشاعره حرصًا معلنًا. وروى لي الأستاذ أسامة سرايا، رئيس تحرير «الأهرام» الأسبق، أن أنيس كتب سلسلة من الأعمدة التي يتضح فيها تذمُّره من الأوضاع. فاتصل الرئيس مبارك بأسامة شخصيًا، وقال له: «إيه اللي مزعّل أنيس يا أسامة؟ ما يصحش أنيس يزعل». للرئيس في مصر علاقة بالصحافيين لا وجود لها في أي بلد آخر. يقرأهم بنفسه، ويتابعهم بنفسه، ويرفعهم ويسجنهم بنفسه أيضًا. وأنيس لم ينسَ أن عبد الناصر أوقفه عامًا كاملاً عن الكتابة والحياة، فظل يعود إلى ذلك حتى يومه الأخير، وعموده الأخير. ولا بد من استدراك: كانت تلك هي الحال أيضًا أيام الملك فاروق والنحاس باشا. وطالما كتب محمد التابعي كيف حاربه الملك، وطالما كتبت روز اليوسف كيف حاربها مصطفى النحاس في التوزيع والطباعة والرزق. وطالما نسيت فاطمة اليوسف أنها فتاة يتيمة من لبنان، جعلتها مصر في سدة المسرح وكرسي الصحافة. ذلك هو العصر الذي شب فيه رحّالة الصحافة العربية. غدًا، أنيس منصور من باندونغ. إلى اللقاء..
مشاركة :