صدر مؤخرا عن دار نشر «دابلداي»، بنيويورك، كتاب بعنوان «الرجل الذي أدار واشنطن.. قصة حياة جيمس بيكر» وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية بين عامي 1989-1992، لكل من «سوزان جلاسر»، و«بيتر بيكر»، اللذين صنفا وزير الخارجية الأسبق كشخص «أدار بفاعلية أكثر الفترات اضطرابًا في السياسة الدولية منذ الحرب العالمية الثانية، حيث أشرف على نهاية الحرب الباردة، وساعد في إعادة توحيد ألمانيا، ونظم مؤتمرًا تاريخيًا للسلام في الشرق الأوسط».وبشكل كبير اتسمت ردود فعل المعلقين على الكتاب بالإيجابية، وتم وصفه بأنه «تصوير متوازن لبيكر». وكتب «دانيال دريزنر»، في صحيفة «واشنطن بوست»، أنه «ليس تمجيدًا لبيكر، وبدلاً من ذلك يشرح كيف انحدر الحزب الجمهوري من حزب ريجان إلى حزب ترامب». ولاحظ «لويد جرين»، في صحيفة «الجارديان»، أنه في حين أن لهجته «تبدي احترامًا وإعجابًا، إلا أنها ليست تبجيلية، حيث سلط الضوء على ميل بيكر لتلميع صورته وإبعاد نفسه عن المشاكل»، غير أنه وصف العمل بأنه «سيرة ذاتية بارعة ثرية بالمعلومات».استهل المؤلفان الفصل التمهيدي بالتركيز على حياة «بيكر» الشخصية وبداياته السياسية، بعدها تم تناول فترة عمله كوزير للخارجية ودوره في حرب الخليج. ولعل أحد المواضيع الرئيسية التي تناولاها كان «تحذيره من استخدام القوة العسكرية». ففي البداية كان «متحفظًا، ويبتعد عن المخاطرة، وحذر دائمًا من جر واشنطن إلى مستنقع خارجي بعد الغزو العراقي للكويت». وأضافا، ردًا على تصريح بوش الشهير، بأن «احتلال العراق لن يصمد»، أنه «كان يخشى أن بوش كان يلزم نفسه بأكثر مما كانت واشنطن مستعدة للتعامل معه». ودافعا عن هذا التقييم، بقولهما: «في ذلك الوقت كان الجيش العراقي رابع أكبر جيش في العالم، وكان صدام حسين قد أظهر بالفعل ولعًا باستخدام الأسلحة الكيماوية خلال حرب العراق مع إيران في الثمانينيات».وبمجرد اتخاذ القرار بتشكيل تحالف ضد «صدام» برهن المؤلفان على فاعلية دور بيكر الدبلوماسي، حيث وصفا رده بأنه «هجوم دبلوماسي استثنائي»، من خلال «جولات مكوكية حول العالم في عشرة أسابيع، وعقد أكثر من مائتي اجتماع مع رؤساء الدول ووزراء الخارجية، لتشكيل تحالف بقيادة واشنطن ضد العراق». وخلصا، إلى أن ما يسمونه «تحالف بيكر» كان «مجموعة استثنائية من ست وثلاثين دولة، ولا سيما أنها تضم دولاً معادية للغرب في العادة، مثل سوريا».وفي هذا الصدد، أشاد الكتاب بأسلوبه الشخصي في الدبلوماسية، والذي من خلاله «أقنع واستغل وخدع وأرهب». وحول نجاحه في إقناع الدول في الأمم المتحدة بدعم القرار (678)، الذي دعا العراق إلى الانسحاب من الكويت؛ عقب المؤلفان بأن «هذه المنطقة الطبيعية له بناءً على خبرته السابقة في المفاوضات السياسية المحلية».علاوة على ذلك، فإن إدارة بيكر لمخاوف البلدان المتورطة في الأزمة جديرة بالثناء. ويستشهد الكتاب بـ«سنوات الخبرة» له باعتبارها لا تقدر بثمن في التصدي بنجاح للاعتراضات السوفيتية على استخدام عبارة «استخدام القوة»، والتي تم تغييرها إلى «جميع الوسائل الضرورية» الأكثر غموضًا كوسيلة لكسب الدعم السوفيتي. وفي غمرة الصراع نفسه، تم تسليط الضوء على نجاحاته في إقناع إسرائيل بعدم الرد على العراق بعد سلسلة من هجمات صواريخ سكود؛ وهي الخطوة التي كان يُمكن أن تؤثر على مُشاركة الدول العربية في التحالف.من جانب آخر، أشاد المؤلفان بقدرته على إقناع الدول ليس فقط بالالتزام بالتحالف عسكريًا، لكن أيضًا ماليًا، حيث كان قادرًا على تعويض معظم العبء المالي لواشنطن، وتمكن من جلب 53.7 مليار دولار من الحلفاء مقابل كلفة حرب إجمالية قدرها 61.1 مليار دولار، الأمر الذي جعل القادة الأمريكيين يعتقدون أن «بيكر سيكون ناجحًا للغاية في جعل الولايات المتحدة تجني أرباحًا من الحرب».وفي حين أن تناول «بيتر»، و«جلاسر»، لدور وزير الخارجية إبان حرب الخليج يتسم بالإيجابية في الغالب، إلا أنه لا يخلو من الانتقادات، ولا سيما فيما يخص استعداد «الخارجية الأمريكية» للغزو العراقي. وفي بادئ الأمر كان «غير مبالٍ بشأن استنفار القوات العراقية على الحدود الكويتية». ونظرًا إلى أن العراق كان «محور الاهتمام الأساسي لرئاسة بوش»، فقد أوضح ذلك «مدى افتقاد بيكر وفريقه لإشارات التحذير بشأن صدام حسين. وبعد الغزو تم التساؤل «لماذا لم تفعل الإدارة الأمريكية المزيد للحيلولة دون حدوث ذلك؟». فيما تم انتقاده أيضا لعدم اكتراثه تجاه تحمل مسؤولية تلك الأخطاء الجسيمة. واستشهد المؤلفان، بـ«مايكل كينسلي» من صحيفة «واشنطن بوست» الذي كتب أن الوقت الذي كان بيكر فيه «أعظم من يتخذ موقفًا ذاتيًا في واشنطن؛ فإن تحمل المسؤولية ليس أسلوبه، وأن دفاعه بشأن الجدل حول الاتصالات الأمريكية الرسمية لبغداد لم تلق قبولا».بالإضافة إلى ذلك، تم انتقاد أسلوبه الذي لم ينل رضا الجميع بما في ذلك حلفاء واشنطن. ورأت «مارجريت تاتشر»، أن بيكر «مجرد موظف»، و«شخص يهتم فقط بسياسة الموقف». ودعمًا لذلك، قيل لاحقًا إنه كان «غير مبالٍ تمامًا بالحياة الشخصية للأشخاص الذين عمل معهم أكثر من غيرهم». ويشير الكتاب إلى علاقة متوترة مع الإسرائيليين، وأن «علاقة بوش وبيكر كانت متوترة مع القادة الإسرائيليين منذ البداية». ومع أول لقاء بين الاثنين مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، «إسحاق شامير»، أدى ذلك إلى إحداث شرخ دائم بين الجانبين».وتتمثل إحدى نقاط القوة الرئيسية الأخرى في «الكتاب» في أنه يمنح فهما للمشهد الجيوسياسي الأوسع الذي عمل من خلاله بيكر. وفي الصياغة المبكرة بينه وبين نظيره السوفيتي، «إدوارد شيفرنادزه»، بشأن بيان يدين احتلال العراق، تمت الإشارة إلى نهاية الحرب الباردة، حيث «مثل التعاون لحظة فريدة في العلاقات الروسية الأمريكية، فبعد 45 عامًا من المناورات للسيطرة على العالم انضمت الدولتان معًا لفرض معايير مشتركة على أسلوب الإدارة الدولية». بالإضافة إلى ذلك، أشار إلى أن نجاحات بيكر ليست وليدة جهود فردية، حيث وضع تصرفاته ضمن السياق الأوسع لإدارة بوش. وكثيرًا ما تمت الإشارة إلى «عصابة الثمانية» لكبار مسؤولي البيت الأبيض المكونة من شخصيات، مثل (بوش، وديك تشيني، وكولين باول، ودان كويل). علاوة على ذلك، يوصف وكيل وزارة الخارجية، «روبرت زوليك»، بأنه «مهندس المشاريع الدبلوماسية المميزة لبيكر».ومع ذلك فإن أحد أكثر الأمور اتساقًا في الكتاب هو الصداقة الشخصية الوثيقة والتنافس بين بيكر، وبوش. وتشير «سامانثا باور»، السفيرة الأمريكية السابقة لدى الأمم المتحدة خلال إدارة أوباما إلى أنه «مؤثر» في «تناوله للصداقة العميقة والفكاهية والمنافسة أيضًا مع بوش». وبحلول عام 1990 لم يعد لبيكر النغمة «المفرطة في الاحترام تجاه بوش كما كان عليه الحال في السابق، حيث كان لديه إدراك أفضل بما يمكن أن يقبله الحلفاء وما لا يمكنهم في تشكيله تحالفا تقوده الولايات المتحدة». ومع ظهور بوش «أقل انسجاما أمام الفروق الدقيقة للتحالف وتحت ضغط إصدار أوامر لحرب محتملة، فإن الرئيس كان على استعداد لقبول توجيهات بيكر، حيث توسع بشكل كبير تأثيره على الخليج بأكمله من مجرد دوره كدبلوماسي».وحول «مؤتمر مدريد للسلام»، ومحاولاته لحل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، أشار المؤلفان إلى أن «بيكر» في البداية «تجنب أي استثمار للجهد والوقت في البحث عن السلام في الشرق الأوسط، لأنه اعتبر أن «الأمر أشبه بمستنقع لطالما استنزف طاقات وزراء الخارجية الأمريكيين السابقين إلى حد لا يمكن وصفه». ومع ذلك فقد لاحظا أن حرب الخليج ربما تكون قد غيرت هذه الفكرة؛ حيث إن «معالجة الصراع بين إسرائيل وفلسطين كانت مهمة دبلوماسية تشغله بالفعل حتى قبل أن يتم وقف إطلاق النار من قبل العراق». وبما أنه «قام بما لم يفعله وزير خارجية من قبل من خلال تشكيل تحالف ضم أقوى الدول العربية؛ فقد شكل بدوره علاقات وثيقة مع القادة العرب الرئيسيين الذين سيكون دعمهم لا يقدر بثمن بالنسبة لاتفاق سلام في الشرق الأوسط». وبينما أقر الكتاب بأنه «لم يكن خبيرًا في المنطقة»، فقد أكد أنه «لم يأت أحد مثله في الشعور الأكثر حدسية بطريقة إبرام المفاوضات أو كيفية إغراء الأطراف المترددة لتقديم تنازلات». وبالتالي تم وصفه بأنه «يشبه الحرباء تقريبًا في قدرته على التكيف مع محيطه».بعد ذلك بيّن الكتاب دور «بيكر» فيما يجب أن يتحمله كل من الإسرائيليين والفلسطينيين والسعوديين والمصريين من أجل أن يتمكن في النهاية من التوصل إلى «صيغة أعطت كافة الأطراف ما يريدانه، ومبررًا سياسيًا كافيًا للتريث في ما لم يتم إنجازه من تطورات خلال أشهر من الدبلوماسية المكوكية له». ومن خلال تقديم وصف واضح للأحداث؛ يذكر أن «بيكر» نفسه رأى «مؤتمر مدريد» عام 1991 خطوة أولى نحو الحل، خاصة بعد أن بدأ «يشعر بالمعاناة جراء عدد من الخلافات الصغيرة، التي جعلت طبيعة المفاوضات مؤلمة في بعض الأحيان للتحرك قدمًا للأمام ولو لمجرد بوصة واحدة». ومع ذلك فقد تركت مدريد له «شعورًا بالرضا؛ لأنها أشارت على الأقل إلى أن السلام ممكن، ولكن عليه أن يعلم أن الكثير من العمل المضني ينتظره».وعند النظر إلى جهوده الفعالة بشأن عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية، أشار المؤلفان إلى أن «مدريد كانت الاختبار النهائي لقدرته كوزير خارجية على جلب الأشخاص الذين يكرهون بعضهم البعض للجلوس على طاولة المفاوضات». ومع ذلك، سلطا الضوء على كيفية تأثير الأحداث على تقديراته المتعلقة بالشرق الأوسط، ولا سيما بعد محاولة الانقلاب ضد الرئيس السوفيتي جورباتشوف، ومسألة إعادة انتخاب بوش الأب، حيث قللت كل هذه الأمور من اهتمامه بالمنطقة في المستقبل وقضية السلام كلها».يغطي الكتاب بعد ذلك الفترة الفاشلة لـ«بيكر» كرئيس لحملة إعادة انتخاب بوش الأب، ودوره البارز بعد الانتخابات الرئاسية لجورج بوش الابن عام 2000. ومع ذلك فإن الجزء الأكثر جدارة بالملاحظة في الفصول الختامية يتعلق بآرائه بشأن الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب. وعلى الرغم من أنه ليس أحد المعجبين به إلا أنه «لم يكن مستعدًا للتخلي عن الحزب الجمهوري لمجرد أن احتضن ترامب». وفي حين أنه «قد جسد حقبة مهمة في السياسة الأمريكية، كان مثل العديد من الشخصيات البارزة المنتمية لأي من الحزبين التي نحت خلافاتها جانبًا في ظل الأزمة الراهنة».على العموم، قدم الكتاب سردا مفصلا غنيا بالمعلومات عن «جيمس بيكر»، وجميع الجوانب الرئيسية لحياته ومسيرته المهنية، وأعطى وصفًا تفصيليًا وتحليلا حول نجاحاته وإخفاقاته من خلال الإجراءات الدبلوماسية باستخدام «سياسة المطرقة المخملية» في الفترة التي سبقت حرب الخليج ومؤتمر مدريد، وهو ما قدم إطارا مفاهيميًا شاملاً ومقنعًا على حد سواء للتحولات الهيكلية الكبيرة في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وهو ما وصفته مجلة «الايكونوميست»، بأنه «علامة بارزة لرسم سيرة سياسية تستحق التقدير».وعلى الرغم من أن الكتاب كان من الممكن أن يقدم تقريرًا أكثر تفصيلاً لتفاعلات بيكر مع حكومات مصر والبحرين والسعودية إبان حرب الخليج، فإن الإشارات التي تركها بشأن انحرافات ترامب بعيدًا عن تراث بيكر، ربما يكون هو الأمر الأهم، خاصة أن التناقض بين الأسلوب الدبلوماسي لبيكر والسياسة الخارجية لترامب بات أكثر وضوحًا، وبالتالي فإنه يعتبر تذكيرا بما كان يمكن أن تكون عليه واشنطن إذا واصلت العمل بإرث بيكر. لكن وكما يوضح «لويد جرين»، فإن الكتاب يذكرنا بأن «الدبلوماسية الآن لم تعد دائمًا تسير على هذا النحو».
مشاركة :