حتى لا يقتل آل الدوابشة مرتين

  • 8/12/2015
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

ليس حرق الطفل علي الدوابشة وعائلته جريمة عرقية في المنطق الصهيوني، بل جنائية تماماً كقتل الطفل محمد الدرة عام 2000 وحرق الصبي اليافع محمد أبو خضير العام الماضي في مثل هذه الأيام. الحرق وسيلة قتل موصوفة لكنه يختلف جزئياً عن القتل بالرصاص، ويحمل معنى رمزياً لا جدال في أهميته. ذلك أن إطلاق النار عنوة على هدف حي يعني التخلص من هذا الهدف، وينتهي القتل عند هذا الحد في لحظة محددة، وفي ظروف معينة. أما الحرق فهو يعني أن الحارق يريد إزالة كل أثر لضحيته، أي عائلته وأثاث بيته، وكل ما يدل على أنه يشكل جزءاً من وجود كان ضاجاً بالحياة قبل الحرق. في وصفهم للمحرقة النازية يستخدم اليهود حججاً من الطبيعة نفسها: النازيون قرروا وفق منطقهم العرقي أن اليهودي غير جدير بالحياة، وبما أنه كذلك فيجب حرقه وإزالة وجوده، أي تطهير الأرض منه ولا شيء غير الحرق يحقق هذا الغرض. ويحاجج اليهود بأن كل المجازر التي ارتكبت ضد الإنسانية من قبل ومن بعد لا تشبه المحرقة، لأن الأخيرة انطوت على فعل تطهير شامل بالنار والغاز لا لبس فيه ولا شك. استخدم الصهاينة المحرقة النازية للتنكيل بالشعب الفلسطيني أساساً، ومن بعد بالشعب اللبناني والسوري والمصري والأردني، وكل من اعترضهم من العرب. دمروا لبنان مراراً وارتكبوا مجازر موصوفة في قانا مرتين على الأقل وفي غيرها، وارتكب الطيران الصهيوني مجازر في مصر وفي الأردن وسوريا، باعتبار أن القتل هو وسيلة وجود يهودية، وغالباً ما كانت العبارة نفسها تتردد بعد كل مجزرة وبعد كل تدمير وبعد كل حرب.. لن نسمح لأحد بعد اليوم بأن يضعنا في المحرقة، بعبارة أخرى يحق لليهودي القتل بكل الوسائل وتناول كل الأهداف لأن النازية عملت على تطهير الأرض من اليهود ذات يوم. حرق الطفل علي الدوابشة وعائلته لم يكن رد فعل على عمل مقاوم، أو على اعتداء مارسته العائلة ضد المستوطنين الصهاينة، بل عن تصميم على إزالة العائلة من الوجود بالحرق طالما أن وجود العائلة شاهد ودليل على لا شرعية الوجود الصهيوني على أرض فلسطين، إذاً، لا بد من حرق هذا الدليل لكي يصبح الوجود اليهودي شرعياً. في المنطق الصهيوني أيضاً أن التطهير تم بنجاح في أمريكا عبر قتل الهنود الحمر، وصار اليانكي ملك العالم، فلماذا يكون التطهير العرقي الأمريكي ضد الهنود جيداً، ولماذا يكون التطهير العرقي الصهيوني ضد الفلسطينيين سيئاً؟ إما أن يكون التطهير جريمة في الحالتين وإما أن يكون شرعياً ووسيلة وجودية في الحالتين.. في هذا السياق يجب تصنيف جريمة الدوابشة. عندما تتحدث السلطة الفلسطينية عن الثأر لعلي الدوابشة وسعد الدوابشة، وربما لبقية الأسرة عبر محكمة الجنايات الدولية فإنها تتصرف كمن يغرق السمك في الماء، لسبيين كبيرين على الأقل: الأول هو اعتماد التفسير الذي طرحه نتنياهو للجريمة بكونها جنائية وغير عنصرية، بدليل أن القضاء الصهيوني لم يعتقل الفاعل أو الفاعلين على ذمة التحقيق، وكيف يعتقلهم وهو الذي يستند إلى شريعة تقول إن الحق اليهودي في فلسطين هو حق توراتي مقدس، وإن التوراة هي الوثيقة العقارية الأهم ومعها لا قيمة لحجج وجودية أخرى ما يعني أن الفلسطيني علي الدوابشة، ما كان يجب أن يولد في بلده وبالتالي لا بد من إزالة أثره من هذه الأرض. وعندما يتقدم الرئيس محمود عباس بشكوى ضد حرق علي الدوابشة وأبيه حتى الآن، فكأنه يعترف ضمناً بأن قتل الفلسطينيين قبله لا يستدعي قضاء دولياً، وأن الأمر جنائي ويستحق العقاب حتى لا تقع جرائم أخرى هي واقعة لا محالة لأنها جرائم وجودية. والسبب الثاني ينطوي على افتراض أن المجتمع الدولي الذي منح الصهاينة شرعية وجودهم في فلسطين والذي يرضى بأن يخرقوا كل القرارات الدولية من دون عقاب، والذي يعرف أن حكومة إسرائيل بزعامة نتنياهو هي حكومة مستوطنين من الطراز الذي حرق عائلة الدوابشة، هذا المجتمع يمكن أن يثأر لأسرة الدوابشة وبالتالي يعيد حقاً فلسطيناً مهدوراً كل يوم . ولا بأس من إضافة سبب ثالث، فقد قررت بلدية باريس اليسارية الاشتراكية أن تستضيف "تل أبيب" على ضفاف نهر السين كما تفعل كل عام في الاحتفال بمدينة أجنبية، ولم تلحظ البلدية نقاشات وحوارات يشارك فيها فلسطينيون مسلوبة حقوقهم ومهددين بوجودهم . لم تصرف البلدية النظر عن الاحتفال ب"تل أبيب" بعد حرق أسرة الدوابشة معتبرة أن الأمر لا يعنيها، وأن حرق الأسرة الفلسطينية مسألة غير جديرة بالذكر.. مع العلم بأن فرنسا صديقة للسلطة الفلسطينية، وأن فرانسوا هولاند صديق للرئيس محمود عباس الذي سارع إلى التظاهر في باريس احتجاجاً على مجزرة "شارلي إيبدو" مطلع العام الحالي، وإن كان عباس يحتاج إلى دليل إضافي على طبيعة العدالة الدولية فالتصرف الفرنسي يحمل هذا المعنى وباريس هي صانع مهم من صناع العدالة المزعومة. ليس حرق أسرة الدوابشة استثناء في الصراع الصهيوني الفلسطيني والصهيوني العربي حتى يعامل بوصفه جناية جديرة بالعقاب، إنه جريمة وجودية تقع في صميم الوجود اليهودي في فلسطين. إن الصهاينة الذين يبنون مستوطناتهم بطريقة أشبه بالقلاع القديمة على التلال وفي المرتفعات المحاذية للقرى الفلسطينية يعكسون بواسطة العمران طبيعة عقلية اللص الذي استولى على ملكية ليست له ويريد الاحتفاظ بها عبر تطهير كل أثر لصاحبها، وهم يخافون قطعاً من مصير المستوطنين في الجزائر التي طردوا منها بين عشية وضحاها بعد استيطان دام لقرن وثلث القرن. وحتى لا يقتل آل الدوابشة مرتين، كما قتل محمد الدرة من قبل ومحمد خضير وعشرات غيرهم يجب التعاطي مع أعمال القتل الصهيونية بوصفها جرائم وجود وكل تصنيف آخر لا يعول عليه. baridchama@gmail.com

مشاركة :