ينطلق الهندي رابندرانات طاغور (1861-1941) في روايته غورا من رغبة في الثورة على العادات والتقاليد البالية، وعلى المستعمر الإنجليزي، والدفع إلى التغيير نحو حلم بناء وطن حر وقوي. يخوض طاغور (نوبل 1913) نقاشات فلسفية وسياسية ودينية، ويجري مساجلات على ألسنة شخصيات تمثل مختلف وجهات النظر، وينتقد التعصب الذي وقعت فيه حركات سياسية هندية. ويحاول أن يوضح الصور المتباينة التي تقدمها التكتلات عن بعضها البعض، تلك الصور النمطية التي تسيء للانتماء الوطني، وتزيد من الحواجز بين أبناء الوطن الواحد. وبقي طاغور ملتصقا بهموم الإنسان، مركزا على آلام وأحلام شعبه، مجسدا فكرته عن الفرد المنتمي لقضايا مجتمعه، ومدافعا عن القيم الإنسانية في كل مكان، ومنتقدا التعصب والمغالاة والتطرّف والشعور بالتفوّق على الآخرين، مما أبقى صوته صامدا ومتجددا عبر الزمن. وتدور أحداث الرواية -التي نشرتها وزارة الثقافة السورية بترجمة ماري شهرستان 2015- في مدينة كالكتا -مسقط رأس طاغور- وتقع في الجزء البنغالي من الهند، وسعى الكاتب فيها لتقديم صور عن الحب والصداقة المتسامية على الانتماءات الطائفية والمذهبية. واسم غورا يختصر اسم بطل الرواية غورمُهان أي الوجه الشاحب، وهو أكثر من يجسد بحث طاغور في روايته عن هوية الأمة الهندية. الحرية والخلاص ويواصل طاغور عبر أبطال روايته رسائله عن الوطنية والحرية والخلاص والقيم التي يؤمن بها، ويقول على لسان بطله إن واجبنا الأوحد حاليا هو أن ندخل ثقتنا الصلبة ببلدنا بين المتشككين. ويثور غور ذو الشخصية القيادية على رضوخ أهل بلده الذين يتعرضون للنقد ولكل أشكال الشتائم والسفاهات، وعلى اعتيادهم اعتبار معاملة مواطنيهم ميسوري الحال لهم بدونية أمرا لا مفر منه، وتوصلوا لنتيجة مفادها أن موقفهم هذا طبيعي وشرعي. ويوصي غورا بعدم تقليد المستعمر الإنجليزي، لأن ذلك سيلغي الخصوصية الهندية، ولن يبلور شخصية واثقة من نفسها، قادرة على البناء، ويوجب ضرورة إيجاد علاجات للمثالب من الداخل. ويقرر القيام بثورته ضد الظلم والجهل والتخلف بالموازاة مع دعوته للثورة ضد الاستعمار، ويؤكد أنه لن يقرر اعتبار بؤس بلده على أنه نهائي أبدا، وأن القوى الروحية والحيوية الماثلة في الكون تهاجم بعضها بعضا من الخارج ومن الداخل، ويوصي بعدم الاعتقاد بأن من المستحيل أن تكتسب بلده الحرية، وأن عليهم البقاء جاهزين ومستعدين. ويصل غورا إلى مرحلة من التطرف في قناعاته الطبقية، وممارساته ومخططاته وأفكاره، ويحاول أن يفرض قيودا على نفسه وعلى الآخرين، فيسعى لتعظيم طبقته، فيصدم بالحقيقة التي تخرجه من قوقعته، وتعيد إليه صوابه، وترجعه إلى حريته المسؤولة وانتمائه للهند كلها، بالرغم من انحداره من دماء مستعمريها. درب الواجب ويصف طاغور لحظة اكتشاف غورا الحقيقة وصدمته بها، حين كشف له كرشنادال عن السر الذي أخفوه عنه، أنه حدث تمرد وأتت إليهم والدته وكانت حاملا به، تبحث عن ملاذ خوفا من المتمردين، وكان والده الإيرلندي قد قتل قبلها، وصعق غورا للمفاجأة، وبدا له أن كل ماضيه حلم خارق وخرافي، وفجأة تحولت الأسس التي كان يشعر بأن حياته تستند إليها منذ الطفولة إلى غبار، فلم يعد يعرف أين هو ولا ما هي حقيقته. وبدت له الأيام الخوالي مجردة من محتواها، وانهار المستقبل الباهر الذي عرف كيف يتصوره بشغف، فشعر بأنه ليس له أم ولا أب ولا بلد ولا قومية ولا عائلة ولا حتى إله، فكل ما بقي له حقل سلبي واسع من النفي والإنكار. فإلى ماذا استند؟ وبأي عمل سيقوم؟ ومن أين يبدأ حياته؟ وإلى أي هدف يتطلع؟ ويؤكد غورا أن الحرية المطلقة التي أعطيت له وضعته فجأة بصميم قلب الحقيقة، فكل ما هو جيد أو سيئ في الهند، وكل فرحها أو ألمها، وكل حكمتها أو جنونها، كل هذه الأمور تنصب جميعا في قلبه. ويؤكد أن لديه الحق الطبيعي بأن يخدمها لأن المجال الذي يمكن أن يعمل فيه انفتح أمامه، ولم يعد الهدف مجرد إبداع تخلقه مخيلته، بل إنها سعادة ثلاثمئة مليون طفل هندي. ويدقق صاحب البيت والعالم على حق المرأة في الاحترام لأنها ضياء العائلة، وعلى جدارتها بالاحترام والعشق كأم وزوجة مخلصة، ويشير إلى أن الذين ينزلونها عن هذه المرتبة لمدح مفاتنها يهينونها. وتكون آنانداموا التي احتضنت غورا وبينوى، وتكفّلت برعايتهما وتربيتهما، ممثلة روح الهند بسموها وتفانيها ووفائها لأسرتها وتربيتها وأمومتها. نزع القناع تكون شخصيات طاغور أمام اختبارات الولاء والانتماء والمسؤولية، فعلاقة الحب التي تجمع بين بينوى ولوليتا، وإصرارهما على الاقتران برغم الصعوبات، والتحذيرات التي توجه إليهما، وإنذار المقاطعة من المحيطين بهما، تثبت قوة الإيمان والحب، فتراهما يحاولان إثبات خطأ التفرقة المذهبية والطائفية التي تنسف البنية الاجتماعية وتسهم في إبقاء البلاد مضعضعة. وفي مفاضلة بين الحب والإصلاح، كتب طاغور أن الإصلاح يمكنه الانتظار، وأن الحب والاحترام أهم من الإصلاح، والإصلاح سيحصل تلقائيا عندما يصبح الهنود شعبا موحدا، وأن سياسة التفرقة والتشرذم تشتت البلاد، ويؤكد أنه إذا ما شكل الهنود يوما أمة موحدة، عندها يصبح القرار بيد البلد وأهله. ويشدّد طاغور على أن أي هندي يكون ابن الهند بأكملها، وفي داخله لن يتناقض أبدا الهندوسي والمسلم والمسيحي، وأن كل طبقات الهند طبقته، وكل الأطعمة أطعمته، كحالة غورا بعد اكتشافه حقيقة نسبه. ويصرّح بأنه كان يتحايل على نفسه سابقا ويتغاضى عن الحقائق ويحاول تغليفها والتهرب من مواجهتها، وأنه سجد على قدمي الهند التي يصفها بأمه، وقد تجرد قلبه من كل حكم مسبق، وأدرك بعد انتظار طويل معنى ما يدعى الحضن الأمومي.
مشاركة :