بالنظر إلى الطبيعة التنافسية والقتالية للسياسة، فمن الشائع أن يكون للقادة السياسيين ووسائل الإعلام الإخبارية علاقات متوترة تتسم بالعند مع بعضهم البعض. وأصبحت هذه الآلية أكثر بروزًا في نصف القرن الماضي بالولايات المتحدة، لكن رئاسة دونالد ترامب لولاية واحدة أوصلت هذه المواجهة إلى مستوى جديد وغير مسبوق من الخلاف والعداء الصريح، لدرجة أنه لعب دورًا رئيسيًا في تشويه صورة الخطاب السياسي في الولايات المتحدة، وبالتالي صارت هزيمة ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2020، بمثابة انتصار باهظ الثمن لوسائل الإعلام المتورطة في أزمة الثقة الخاصة بها.منذ البداية، كانت علاقة ترامب مع كل من وسائل الإعلام الأمريكية والدولية هي الأعنف والأكثر سخطًا من أي رئيس أمريكي. وانتقدت وسائل الإعلام مثل صحيفة نيويورك تايمز وصحيفة واشنطن بوست وسي إن إن وإن بي سي على الفور خطاب ترامب الأول، عندما أطلق حملته الرئاسية، وكانوا معارضين واضحين له خلال الحملة الرئاسية لعام 2016. وبعد تنصيب ترامب في عام 2017، كتب مارفن كالب، من معهد بروكنجز، أن «إدارة ترامب أعلنت الحرب على الصحافة الأمريكية»، وأنه على الرغم من المواجهات مع السلطة القضائية والتشريعية الأمريكية، فإن «الصحافة.. هي المستهدفة من غضب الرئيس بشكل خاص».وشن ترامب هذه «الحرب» على وسائل الإعلام من خلال الإشارة إليها بنشر «الأخبار الكاذبة» والتقارير «السخيفة»، لتصبح مصطلحات دائمة في لغة السياسة الأمريكية، وبالتالي جعل هذه الحرب جزءًا من ساحة معركة الحرب الثقافية الأمريكية المفروضة ذاتيًّا بين الجماعات السياسية اليمينية واليسارية داخل البلاد. ووصف مانويل رويج-فرانزيا وسارة إليسون من صحيفة واشنطن بوست هذه الديناميكية، في مايو 2020، بأنها «حملة منظمة تشن معاركها في المحاكم وعلى وسائل التواصل الاجتماعي وفي التجمعات، حيث يحتج ترامب ضد الصحفيين الذين يغطونه، ويحث مؤيديه على استفزاز طاقم الكاميرا وإطلاق صيحات الاستهجان على أقلامهم الصحفية».وعلى غرار أسلوب خطاب حملته الانتخابية، أهان ترامب وسائل الإعلام بشكل متكرر على تويتر. واحتجت وسائل الإعلام مثل نيويورك تايمز وسي إن إن وواشنطن بوست وإن بي سي على هذا السلوك. ومن بين الأحداث البارزة في هذا الصراع الذي دام أربع سنوات، إشارة الرئيس إلى أن وسائل الإعلام تنشر «أخبارا مزيفة» في عام 2018، مع ذكر صحيفة نيويورك تايمز وسي إن إن بشكل متكرر من قِبَل ترامب؛ بسبب الأخطاء في تغطيتهما له. في ذلك الوقت، وصفت سابرينا صديقي من صحيفة الجارديان هذه الحرب بأنها «الوقود الرئيسي لقاعدة ترامب». حتى شبكة فوكس نيوز اليمينية لم تكن دائمًا في مأمن من الاتهامات المتبادلة من ترامب، على الرغم من كونها موطنًا لعدد من كبار الشخصيات التلفزيونية الموالية لترامب مثل شون هانيتي ولورا إنغراهام وتاكر كارلسون، وكل منهم يستقطب الكثير من الجماهير.وفي مقاله عام 2017، لخص مارفن كالب ضرورة محور ترامب-الإعلام لكلا الطرفين المتحاربين؛ وكتب أنه في حين أن ترامب «يكره الصحافة، لا يبدو أنه يعيش بدونها؛ لأنها الأكسجين الخاص به، يبقيه حيًّا عاطفيًّا وسياسيًّا». وفي الواقع، كان تصوير وسائل الإعلام الرئيسية على أنها عدو للمواطن الأمريكي العادي جزءًا مهمًّا ومدروسًا من استراتيجية إدارة ترامب؛ ففي عام 2017، قال ستيف بانون، كبير مستشاري الرئيس للشؤون الاستراتيجية آنذاك، إن «وسائل الإعلام هنا هي حزب المعارضة». ويشرح إيزرا كلاين، من موقع فوكس، ذلك بأن «ترامب يتلاعب بوسائل الإعلام باستخدام نفس التكتيكات، التي سيستخدمها متصيد بديل من اليمين؛ لأنه يريد من وسائل الإعلام القتال معه، لذلك يحصل على المزيد من التغطية والبرامج التي تبين مدى تحيزهم ضده». وبالنسبة إلى وسائل الإعلام الأمريكية الرئيسية، فإن العكس هو الصحيح. على مدى السنوات الخمس الماضية، وكان ترامب هو مادة إخبارية مُثيرة للغضب والجدل الذي يجذب جمهورًا كبيرًا، ويسمح لهم بعدم الثقة في نهجه لإدارة البلاد في تغطيتهم الخاصة.وكان لهذا التنافس تأثير مباشر على سياسات إدارة ترامب، حيث يبدو أن الرئيس دأب دائمًا على التغلب على منافسيه في الصحافة، وأحيانًا بنتائج كارثية. وفي مايو 2020، أوضح مانويل رويج-فرانزيا وسارة إليسون في صحيفة واشنطن بوست، أن «التقليل الأوّلي لترامب من خطورة فيروس كورونا يرجع جزئيًّا إلى اعتقاده، الذي أثاره صهره جاريد كوشنر، بأن وسائل الإعلام تستخدم الوباء حتى الآن طريقة أخرى لمهاجمته». علاوة على ذلك، وصف ترامب الوباء أيضًا بأنه «مؤامرة إعلامية مزيفة»، وكتب أن «كوفيد، كوفيد، كوفيد هي الهتاف الموحد لوسائل الإعلام غير المنصفة».وفي المعركة الأكبر للهيمنة السياسية بين الإعلام والرئيس، عززت الهجمات على وسائل الإعلام بشكل كبير من قاعدة دعم ترامب. وقالت المؤرخة آن أبلباوم في مجلة «ذا أتلانتيك» عن قاعدة دعم ترامب: «على مدار أربع سنوات، استمروا في التصفيق له، بغض النظر عما يفعله، ليس لأنهم صدقوا بالضرورة كل ما قاله، ولكن غالبًا لأنهم لم يصدقوا أي شيء على الإطلاق، فإذا كان الأمر برمته عملية احتيال، فمن يبالي إذا كان الرئيس كاذبًا متسلسلاً؟».ونظرًا إلى أن الحملة الرئاسية لعام 2020 تشهد استمرارًا للعداء بينها وبين ترامب، فليس من المستغرب أن تسعد وسائل الإعلام الأمريكية الرئيسية بإخفاقه في نهاية المطاف. وفي الثامن من نوفمبر، انتقد ترامب منافسيه مرة أخرى بمزيد من اليأس، مدعيًا على تويتر أنهم «لصوص»، وأن الانتخابات الرئاسية «كانت انتخابات مسروقة»، واستهدف أيضًا وسائل الإعلام، حيث كتب:«منذ متى يتصل الأمر بوسائل الإعلام غير المنصفة لتحديد من سيكون رئيسنا القادم؟ لقد تعلمنا جميعًا الكثير في الأسبوعين الماضيين!».هذه المزاعم، التي قُدمت دون أدلة داعمة، لم تمنع معظم المعلقين الإعلاميين من التبشير بنهاية عهد ترامب. وكتب ديفيد أ. جراهام من مجلة «ذا أتلانتيك» أن الناخبين الأمريكيين «قد كشفوا ترامب، الذي بُنيت حياته المهنية وشخصيته العامة بالكامل على صورة الفوز المستمر؛ كخاسر». وأضاف جراهام أن «ترامب وأنصاره يمكن أن يتسببوا في فوضى، ويمكنهم إلحاق الضرر بثقة الأمريكيين بالمؤسسات في طريقهم للخروج من البيت الأبيض، لكن الدعاوى القضائية العديدة التي ترفعها الحملة ستؤدي إلى تكديس المزيد من الخسائر». كما علق مايكل كروس، من صحيفة «بوليتيكو»، على أن «موهبته في إعادة صياغة الواقع لصالحه لم تكن قادرة على التغلب على الحقيقة الإحصائية فرز الأصوات التي لم تقبلها غالبية الأمة فحسب، بل تمليها عليها. لقد خسر».وفي تناولها لهزيمة ترامب، سلطت وسائل الإعلام الأمريكية الضوء على هوسه بمواجهة وسائل الإعلام كسبب رئيسي لهزيمته في الانتخابات. وجادل مايكل كروس بذلك لترامب؛ «هوسه بالإيجابية العمياء، إزاء الصورة على أرض الواقع، مع استخفافه بالحقيقة، وعدم رغبته الفطرية في مشاركة أي شخص الثناء أو تحمل أي لوم، والتزمت في رأيه، كل هذا منعه من إظهار التعاطف الكافي للاعتراف بالألم الكاسح الذي سببه وباء الفيروس التاجي الذي طغى على سنته الأخيرة في المنصب». وأوضحت جين ميرسيكا، من جامعة تكساس، أن «الناس سئموا من الغضب. وأرادوا فقط العودة إلى طبيعتهم. إنهم لا يريدون أن يستيقظوا في الصباح ويتساءلون ماذا فعل رئيسهم أو ما الذي ينتظرهم».ومع ذلك، كان هناك أيضًا قبول بأن فترة ترامب كرئيس للولايات المتحدة، سواء شاءت وسائل الإعلام أم لم تشأ، تركت بصمة لا تمحى في ذاكرة الولايات المتحدة. وفي هذا الصدد، أشار الكاتب «روبرت ميري» بصحيفة التايمز البريطانية إلى أن «حالة التقارب التي أحدثها مع شعبه في محاولة لإعادة انتخابه، كانت أكثر إثارة للإعجاب بكثير مما توقعته استطلاعات الرأي والمحللون أنفسهم، ويمكن أن يُعزى هذا جزئيًّا إلى قدرته المذهلة على تحفيز ملايين المواطنين الأمريكيين لصالحه»، وأن «ترامب لمس وترًا حساسًا قويًّا عندما صاغ حملته لعام 2016، باعتبارها هجومًا على نخب الأمة الأمريكية ومؤسساتها».ويضيف «جوناثان تيبيرمان»، رئيس تحرير مجلة «فورين بوليسي»، أنه عندما يُنظر إلى ترامب يتضح أنه «فاز بحوالي 7 ملايين صوت أكثر مما فعل في عام 2016»، و«حسّن مكانته بين الناخبين اللاتينيين والسود حينها»، «وهنا يتبقى لك استنتاج واحد وهو: الفوز بانتخابات 2016 لم يكن حظًّا. ربما يكون بايدن قد فاز في الانتخابات الراهنة؛ لأن قيادة ترامب للولايات المتحدة انتابتها الإخفاقات». علاوة على ذلك، كان لمعركة ترامب ضد وسائل الإعلام الأمريكية الرئيسية تأثير لا يمكن إنكاره على كيفية نظر الناخبين في البلاد إليها: ولقد أظهر استطلاع مستقل أُجري في أكتوبر 2020 أن 41% من الناخبين الأمريكيين يعتقدون أن الصحفيين منحازون ضده الرئيس الأمريكي، بينما 34% فقط ضد هذا الاعتقاد تمامًا.وبعد أن فقد ترامب الرئاسة أمام بايدن، يبقى السؤال عما يخبئه المستقبل للولايات المتحدة الأمريكية. نظرًا إلى أن نهج ترامب القتالي والعدائي لا يُظهر أي علامة على التراجع، فقد تكهن الكثيرون بأنه يمكن أن يشارك هو نفسه في وسائل الإعلام الأمريكية، ويطلق شبكته الإخبارية الخاصة، ويستمر في ممارسة تأثيره الخاص على السياسة الأمريكية اليمينية.ولعل الوجود الإعلامي الحالي لـ«ترامب» سيكون من العوامل الحاسمة في ممارسة هذا التأثير؛ فخلال فترة رئاسته، نما حضور «ترامب» على الإنترنت بشكل ملحوظ. وتجدر الإشارة إلى أنه قبل أن يطلق حملته الرئاسية في عام 2015، لم يكن لدى ترامب سوى 3 ملايين متابع على «تويتر»، وهو ما يمكن مقارنته بـ89 مليون متابع بحلول نوفمبر 2020، بالإضافة إلى 31 مليون متابع على «فيسبوك» و23 مليونًا على موقع مشاركة الصور «إنستجرام». ولهذا السبب، كتب كل من: «كريج تيمبيرج» و«إليزابيث دوسكين» بصحيفة واشنطن بوست الأمريكية، أن «ترامب سيترك البيت الأبيض وكثير من وسائل التواصل الاجتماعي الضخمة تتابعه، وهو ما يمكن أن يستخدمها لتشكيل سياسة الأمة الأمريكية طوال فترة ولاية بايدن وما بعدها». وقال البروفيسور «فيليب إن هوارد» مدير معهد أكسفورد للإنترنت في جامعة أكسفورد، إنه عندما يترك ترامب منصبه «سيغادره مع أكبر قاعدة للداعمين في عصر السياسة الحديثة عبر مواقع التواصل الاجتماعي العملاقة»، وأنه سيكون لديه «جمهور مخلص ومحب لمضايقاته السياسية وتركيزه على أدوات مثل نظرية التآمر والتطرف والاستقطاب، وإثارة العديد من القضايا الشائكة».كانت هناك أيضًا تكهنات كثيرة بأن ترامب سيحول انتباهه الآن إلى شركته الإعلامية لمنافسة شبكة «فوكس نيوز» الأمريكية، التي باتت تواجه ردود فعل عنيفة من أنصار ترامب؛ بسبب تغطيتها للانتخابات الرئاسية، وقد أدان العديد من أنصار ترامب عبر الإنترنت شبكة فوكس نيوز؛ لتوقعها فوز «بايدن» بصورة مبكرة في ولاية أريزونا المتأرجحة، الأمر الذي أدى إلى استياء البيت الأبيض. وتلاحظ المراسلة «لويس بيكيت» بصحيفة الجارديان أنه بدلاً من تلك الشبكة، «يقول بعض مؤيدي ترامب إنهم حولوا ولاءهم إلى وسائل إعلام أخرى أصغر حجمًا، بل وأكثر دعمًا لترامب، مثل قناتي (وان أمريكا نيوز (One America News)، و«نيوز ماكس تي في» (NewsMax TV)، وكلاهما متهم بنشر نظريات المؤامرة والاتهامات المغرضة.ستكون مواجهة ترامب والمعارك التي لا تنتهي مع وسائل الإعلام الأمريكية واحدة من التداعيات والموروثات الرئيسية لفترته الرئاسية، ومن المرجح أن تبدأ وتستمر هذه التداعيات بمجرد تركه منصبه. واستنادًا على ما إذا كان قد بدأ بالفعل إنشاء شبكته الإعلامية الخاصة به، قد تتصاعد علاقته المضطربة والعدائية مع وسائل الإعلام في السنوات القادمة. وعلى الرغم من أن الحرب ضد وسائل الإعلام الرئيسية بالنسبة إلى ترامب شجعت على أن يكون هناك دعم متزايد بين القاعدة الموالية له، إلا أنه كان لها أيضًا بلا شك تأثير أدى إلى خسارته للناخبين المعتدلين وتراجع ثقل الخطاب السياسي في الحياة السياسية الأمريكية. وبالتالي، فبالنسبة إلى الكثيرين، فإن انتخاب «جو بايدن» لتولي الرئاسة في يناير 2021 سيمثل استعادة لوسائل إعلام أقل انتقادًا وأكثر هدوءًا مما هي عليه الآن، وبالتالي عودتها لممارسة مهامها بصورة طبيعية.
مشاركة :