في أعقاب اتفاقها مع القوى الكبرى، بادرت إيران بإرسال وزير خارجيتها محمد جواد ظريف إلى دول مجلس التعاون، يحمل رسالة حسن النوايا فزار ظريف العراق والكويت وقطر، تسبقه التصريحات المطمئنة لدول الخليج، المهدئة لمخاوفها من تداعيات الاتفاق النووي على أمنها واستقرارها، كما كتب الوزير الباسم مقالات في صحف عربية ودولية، بعناوين معبرة عن أهمية توثيق العلاقات مع دول الجوار، منها جيراننا أولويتنا والجار ثم الدار مؤكد فيها على التعاون البناء مع دول الخليج في حماية الأمن والاستقرار وفي مواجهة التطرّف والإرهاب، وفي احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، كما يدعو الوزير الإيراني إلى مجمع للحوار الإقليمي بين الدول الثمانية الساحلية: إيران والعراق ودوّل المجلس. الخليجيون سمعوا مثل هذه التصريحات كثيراً، سواء من ظريف أو الرئيس روحاني، كما سمعوها من قبل، من رفسنجاني (2008)، يريدون -اليوم- ما هو أبلغ من الكلام، وهم محقون في هذا، لأن الوقائع والسلوكيات على الأرض تناقض الأقوال والتصريحات، كما يناقضها تصميم المرشد الأعلى في خطابه الأخير، على الاستمرار في استراتيجية تصدير الثورة وأنه لا شيء يثني طهران عن طموحاتها الإقليمية! يأخذ الخليجيون على ظريف، خطابه المخاتل الذي يظهر غير ما يبطن، ويقول غير ما تتصرف به حكومته في المنطقة، ويتمنى ما لا يتفق مع مفهوم الثورة الإيرانية! لقد خبر الخليجيون مثل هذه السياسة المزدوجة من إيران على امتداد السنوات الماضية: سياسة لها وجه ظاهري رسمي، باسم ودود، وأخرى لها وجه ثوري سري مناقض! لكن ما يأخذونه على ظريف وحكومته، هو سلوك معتاد في العلاقات، تفعله حكومات عديدة، الإدارة الأمريكية -قبل الاتفاق- سعت لكسب ود طهران بمختلف الوسائل، وتجنب الرئيس الأمريكي أوباما إغضابها وتجاوز عن كثير من مسلكياتها في المنطقة، وتودد إلى الإيرانيين ووصفهم بالعقلانيين، البراجماتيين، وأثنى على النظام الإيراني لدرجة القسوة على أصحابه التاريخيين الخليجيين، ودافع عن الاتفاق بحجة أنه يقوي المعتدلين ويطبع علاقة إيران بالمجتمع الدولي، فلما تحقق مراده، بالاتفاق، أصبح يقول إنه لا ثقة لديه بالقيادة الإيرانية، وأنه يعرف أن إيران ستملك مالاً اكثر لصرفه على الإرهاب، ووصف النظام بالقمعي الخطير، لا عجب، يريد اليوم تسويق اتفاقه وإرضاء أصدقائه العاتبين. يتصور الخليجيون، أن ما يقوم به الرئيس روحاني ووزير الخارجية ظريف من أقوال وتصريحات وإجراءات مطمئنة، ما هو إلا جزء من تكتيك توزيع أدوار بين قوى الاعتدال وقوى التشدد، ريثما يتم الاتفاق ويرفع العقوبات، فهو تكتيك مرحلي، تتطلبه سياسة إيران الخارجية في هذه المرحلة، لخدمة استراتيجيتها الثابتة ومشروعها الإقليمي. كتاب ومثقفو الخليج على موقفين: الأول: مع الحوار والانفتاح والتطبيع مع إيران، عبر بناء علاقات قوية مع المجتمع الايراني، طبقاً للكاتب الكويتي خليل علي حيدر إيران ما بعد النووي الذي يتساءل: لنفرض الأسوأ، فنقول إن هدف إيران قلب الأوضاع، لكن ما مشروعنا نحن في المقابل؟! ويضيف: علينا التحرك داخل إيران، بتأسيس لجان المتابعة الشعبية مثلاً، بتنظيم مجموعات تشمل رجال أعمال وعلماء دين ودبلوماسيين وأساتذة جامعة وإعلاميين وفنانين وغيرهم، يتابعون بناء علاقات قوية مع الأوساط الإيرانية ويحاولون محاصرة مظاهر التشدد داخل إيران... وكذلك نحن بحاجة إلى مؤسسات ومراكز أبحاث لدراسة إيران وكيف تفكر وتتخذ قراراتها. الثاني: يرى أن فكرة المصالحة مع إيران، فاشلة، وهذا رأي معظم الكتاب الخليجيين، وأبرزهم عبدالرحمن الراشد، في رده على صديقه الكاتب طراد العمري، الذي دعا للانفتاح على إيران، وصفه بـ الحمائم الخليجيين وقال فيه: 1- دول الخليج تحتاج إلى ضمانات على أن إيران تغيرت بعد الاتفاق، ولا تستطيع أن تنام على وعود النوايا الحسنة. 2- يوجد كم هائل من النشاطات العدائية، تنفذها إيران أو وكلاؤها، موجهة ضدنا، وهي قديمة قدم الثورة. 3-سبق للخليج أن مد يده وفتح حدوده وعواصمه ثم اكتشف بعد ذلك أن النظام الإيراني زاد عدوانية ضده، ففي التسعينات تمت لقاءات تفاوضية ووقعت اتفاقية وزار الشيخ رفسنجاني السعودية وجال فيها لأسبوعين، وتبادلت الزيارات: رجال أعمال وأمراء ووزراء وعسكريون، ثم اكتشفت السعودية أن داخل النظام الإيراني من أراد استغلال طيب النية لتهريب أسلحة وتجنيد معارضة. 4- ما يطرحه البعض من ضرورة التصالح، منطق سليم، لكنه لا يكفي دون ضمانات تحمي الخليج. 5- أطمئن الحمائم الخليجيين أنه رغم الخلاف، علاقاتنا بإيران حية تتنفس، سفراء وسفارات، سعوديون يسافرون إلى إيران، وإيرانيون يزرون السعودية للحج والعمرة.. الخ. ختاماً: مع تقديري لوجاهة حجج ومبررات طرح الصقور الخليجيين أتفهمها جيداً، إلا أنه علينا أن لا نيأس من المحاولة، علينا أن نغزو إيران، ثقافياً واقتصادياً وإعلامياً واجتماعياً، علينا مساعدة المعتدلين ولو إلى حين، الأوروبيون يتسابقون إلى إيران، ونحن أولى، حليفنا الأكبر ظل ماداً يده (10) سنوات، ولم ييأس، حتى حقق هدفه، ونحن أجدر، ما لم نفلح فيه سابقاً لا ينبغي أن يعوقنا، فالسياقات مختلفة، والخليج اليوم غير الخليج بالأمس، والاقتصاد والثقافة يصنعان ما لا تصنعه السياسة، بل تقود السياسة في عالم اليوم، غالبا.
مشاركة :