أبو تمام الأب الروحي الملهم للمتنبي في النزوع الى الحماسة برز في الجاهلية النابغة وطرفة والأعشى وعنترة وغيرهم في العصر الأموي كان الأخطل وجرير والفرزدق من أهم شعراء الحماسة جهاد فاضل: الحماسة تعني في الأصل معنى الشجاعة وتقترن بمعاني البطولة عمومًا كالبأس والإقدام، لكنها اقترنت أساسًا بالحرب، فكانت تعكس انفعالات الشاعر إزاء وقائعها وعتادها وعدّتها وغير ذلك من لوازم الحروب. وهي ليست نهجًا جديدًا بل هي نزعة ضاربة بجذورها في القدم، حيث برزت منذ ميلاد الشعر العربي في طوره الجاهلي. ولكنها كانت تقوى وتفتر من حين لآخر حسب متطلبات الواقع الحضاري. وقد كانت حاضرة في أغلب الأغراض الجادّة كالمدح والرثاء والفخر والهجاء. فبرز في الجاهلية النابغة، وطرفة، والأعشى، وعنترة وغيرهم، كما برز في العصر الأموي الأخطل وجرير والفرزدق. وتواصلت نزعة الحماسة في العصر العباسي. الباحث التونسي الدكتور المنجي القلفاط يعالج الحماسة في الشعر العربي القديم في كتاب حديث له صدر في تونس من منشورات كارم الشريف ويعرض في هذا الكتاب لعدة شعراء منهم أبو تمام والمتنبي والحسن بن هاني (أبو نواس) كان لهم نصيب موفور في الشعر الحماسي. وقد بدأ بالمتنبي الذي أبدع في وصف الوقائع، وفي وصف الجيش ووصف ساحة النزال ووصف القتلى والدماء، وتفضيل السيف على الكتاب. ففي وصف الوقائع مثلًا أبدع المتنبي في هذا المستوى، وله عدة قصائد جياد لعل أبرزها ميميته التي أنشدها بعد سقوط قلعة الحدث بين يدي سيف الدولة والتي مطلعها: على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارمُ وهذه القصيدة تكاد تضاهي من حيث الحدث والأهمية في الديوان بائية أبي تمام في فتح عمورية والتي مطلعها: السيفُ أصدقُ أنباءً من الكتبِ في حّدهِ الحدُّ بين الجّدِ واللعبِ وبذلك تتداعى النصوص الشعرية وتهاجر عبر الزمان والمكان لتحوم حول مركز موحد هو الحماسة. وكثيرًا ما أعتبر المتنبي الموت في ساحة القتال حياة فيولد تصوّر جديد قوامه توحد المتناقضين وذلك يتنزل في إطار الترغيب في القتال: وفوارس يحيي الحمِام نفوسهم فكأنها ليست من الحيوانِ ولأبي تمام معنى قريب من هذا هو قوله: قومٌ إذا تلفت نفوسهمُ فقد سلموا هذا التناصّ المعنوي كثير حضوره بين شعر المتنبي وأبي تمام نظرًا لتشابه الوجهتين، فكلاهما نزّاع إلى الحماسة ميّال إلى التحفّز إلى حّد يمكن معه اعتبار أبي تمام الأب الروحي الملهم للمتنبي. وأبو تمام برأي الباحث أكثر الشعراء الذين متح منهم المتنبي المعاني والصور الشعرية. وفي باب تفضيل الحرب على حياة الذل والهوان للمتنبي أبيات كثيرة منها: - عِشْ عزيزًا أوْ مُتْ وَأنتَ كَرِيمٌ بَينَ طَعْنِ القَنَا وَخَفْقِ البُنُودِ - غَيرَ أنّ الفَتى يُلاقي المَنَايَا كالِحَاتٍ وَلا يُلاقي الهَوَانَا ولا شك أن مثل هذه الأبيات هي رجع صدى لقول عنترة العبسي: موتُ الفتى في عزّه خيّر له من أن يبيت أسيَر طرفٍ أكحلِ واعتبر المتنبي الحرب أهلاً للترغيب فيها وتقريب صورتها من النفس: - أنَا ابنُ اللّقاءِ أنَا ابنُ السَّخاءِ أنا ابنُ الضِّرابِ أنا ابنُ الطِّعانِ وفي باب تفضيل جدية الحماسة على مظاهر اللهو والمجون ولا سيما المرأة والخمر، وهي نهج برز بشكل كبير عند المتنبي خاصة: - وغير فؤادي للغواني رميّة وغير بناني للكؤوس ركابُ - ألا حبذا قوم نداماهم القنا يسقونها ريًّا وساقيهُم العزُم وقد استعاض المتنبي عن المرأة بالحرب فأصبحت الحرب معشوقة: - سمراء يستغوي الفوارس قدُّها ويذكرها كرّاتها وطعانَها - أعلى الممالك ما يُبنى على الأسلِ والطعنُ عند محبّيهن كالقبلِ وهذا البيت الأخير من قول أبي تمام: يستعذبون مناياهم كأنهم لا ييأسون من الدنيا إذا قتلوا ويتحدث الباحث عن شعريات عدة لدى شعراء الحماسة منها شعرية المعجم. وهي تتحقق في شعر المتنبي من خلال تصريف أسماء السلاح حسب المقصد والمقام. فالسيف مثلاً توظف أسماؤه المختلفة والكثيرة في قصائد الحماسة مما يعكس اكتمال الحماسة موضوعًا شعريًا له جهاز مفهومي متشعب. ويُعَد المتنبي أكثر الشعراء تصريفًا لأسماء السيف. وهناك شعرية الإيقاع. والإيقاع جوهر الشعر، وكثير ما عرّف النقاد الشعر بربطه بهذا المقوّم. فالشعر ضرب من الإيقاع وهو كلام موزون مُقفى. لكن الإيقاع في سياق الحماسة يتخذ أبعادًا أعمق فيتجاوز قرع الأسماع والآذان إلى استمالة الأذهان فيكون الإيقاع نفسه عنصرًا داعمًا للمعنى بل ومولّدًا له في أحيان كثيرة. ويميل شعراء الحماسة إلى استعمال البحور الطويلة: البسيط والطويل خاصة، وقد اقترنت هذه البحور منذ القديم بالأغراض الجادة، والحماسة مسلك شعري اتسم بهذا الطابع. كما يعتمدون بحر المتقارب لأنه يحاكي وقع الخيول وحركة الجيوش: فأقْبَلن يَنْحَزْنَ قُدَّامَهُ نوافر كالنحل والعاسلِ وكثيرًا ما تكون الموازنة مركبة وأكثر تعقيدًا فتضاعف من جمالية الإيقاع الحماسي من ذلك قول أبي تمام: تدبير معتصم بالله منتقم لله مرتقب في الله مرتغبِ وهناك شعرية المقاطع الطويلة ويعمد الشعراء إلى توظيفها لخدمة معنى حماسي معين. من ذلك قول المتنبي: بناها فأعلى والقنا يقرع القنا وموج المنايا حولها متلاطُم وهناك شعرية الأصوات التي توظف في سياق حماسي مخصوص فتكون محاكية للمعنى داعمة له. من ذلك تكرير حرف القاف في البيت الواحد للتعبير عن قعقعة السلاح وتقلب الأحوال وحال الاضطراب: وما تقرّ سيوف في ممالكها حتى تُقلقل دهرًا قبلُ في القللِ وللتركيب في الشعر توظيف مخصوص يقوم على العدول عن النسق التركيبي النحوي، فيكون خرق المألوف في اللغة بالخروج عنه شرطًا ضروريًا لتوليد جمالية الشعر: فكان الغرب بحرًا من مياه وكان الشرق بحرًا من جيادِ فالمقابلة تعكس الصراع الموحي بانتصار العرب على العجم. وعن المقابلة أيضًا: وأنت نبع والملوك جروعُ وأنت بحر والملوك جداولُ إن النزعة الحماسية وثيقة الصلة بالأوضاع الحضارية والتاريخية التي نشأ فيها الشاعر، لذلك تبرز هذه النزعة طورًا وتفتر آخر. ففي القرنين الثالث والرابع، استشعر بعض الشعراء الخطر المحدق بالحضارة العربية بسبب تشتت الخلافة المركزية ومقارعة الغرب لتخوم الدويلات المشتتة، فكان لزامًا على الشاعر أن يحفّز الهمم من جديد ويعبئ الأمة للذود عن البلاد. وهناك أيضًا دافع فني ونفسي. فقد وجد شعراء الحماسة في مسلك الحماسة ما يمكن أن يؤسس لعالمهم الشعري وخيارهم الفني. كما أن طبيعة الشاعر الميالة إلى الطموح والشعور بالعظمة، جعلت المتنبي والآخرين يختارون مسلك الحماسة لتحقيق مفهوم كمال الرجال. وهناك أيضًا دافع تكويني يتلخص في قاعدة التلمذة. كان المتنبي ينهل من معين أبي تمام ويطوّر محصوله الفني والفكري تمامًا مثلما متح ابن هاني الأندلسي من أبي الطيب وسار في فلكه. وفي المقابل أفاد أبو تمام من شعراء الحماسة السابقين منذ العصر الجاهلي مرورًا بالعصر الأموي فالعباسي في طوره الأول.. وعلاقة الاستفادة والإفادة عبّر عنها أبو تمام بقوله: ولو كان يفنى الشعر أفناه ما قرت حياضك منه في العصور الذواهبِ ولكنه صوب العقول إذا انجلت سحائب منه أعقبت بسحائبِ ويعقد الباحث فصلًا حول قصيدة أبو نواس: ودار ندامى متسائلًا ما إذا كانت هذه القصيدة وصفًا لخمارة أم رثاء لحضارة. نص هذه القصيدة لأبي نواس هو التالي: ودارِ نَدامَى عَطَّلُوها وأَدْلجُوا بها أثرٌ منهمْ جَدِيدٌ ودارِسُ مَساحِبُ من جَرِّ الرقاق على الثرَى وأَضْغاثُ رَيْحانٍ جَنِيٌّ ويَابِسُ ولم أرَ منهم غيرَ ما شهِدَتْ بهِ بشرقيَّ سَابَاطَ الديارُ البَسَابس حبَسْتُ بها صَحْبي فجمَّعْتُ شَمْلَهم وإني على، أمثال تلك لحابسُ أقَمْنَا بها يوماً ويوماً ثالثاً ويومٌ له يوم الترحُّل خَامِسُ تُدَارُ علينا الراحُ في عَسجديّةٍ ... حَبَتْها بأنواع التصاويرِ فارسُ قرارَتُها كِسْرَى وفي جَنَباتها ... مَهًى تدَّريها بالقِسِيِّ الفوارسُ فللرَّاحِ ما زُرَّتْ عليه جيوبُها ... وللماءِ ما دارت عليه القَلانِسُ فيرى أن بنية القصيدة ثنائية التركيب، مقطع أول يمتد على خمسة أبيات أولى فيه وقفة على أطلال حان أو خمارة، ومقطع ثانٍ يضمّ ثلاثة أبيات أخيرة فيها وصف لمجلس خمري وبعض لوازمه. تطفح القصيدة بمظاهر الإشادة بالحضارة الفارسية، مهد أبي نواس. من ذلك أن القافية قُدّت على وزن فارس دارس يابس فيكون الإيقاع مترددًا على موجة هذه الحضارة التي ينحدر منها أبو نواس، وسرعان ما ينتقل الشاعر إلى وصف أجواء المجلس الخمري مستهلًا ذلك بفعل تُدار الذي يرمز إلى استدارة الزمن واستعادة ما ولّى وغبر، وقد اختار الشاعر من أسماء الخمر الراح ويعني الخمر التي تشعر صاحبها بالراحة عند شربها.. ومما يزيد المجلس جمالًا وبهاءً، الكأس التي تسكب فيها الخمر، فهي كأس عسجدية نسبة إلى العسجد أي الذهب وفي ذلك إبراز لنفاسة المكان وتمجيد لحضارة الأجداد على لسان الأحفاد. ولا أدلّ على ذلك التمجيد من استعمال عبارة حبتها التي تدلّ على العطاء والهبة والزخرف أيضًا: إعطاء الثمين والشيء النفيس الذي منحته الحضارة الفارسية للعرب خاصة، وللإنسانية عمومًا في مختلف المجالات رمز إليها بالذهب. وأشار الشاعر إلى تنوعها بقوله: ألوان التصاوير وفي ذلك إشادة بجمال الحضارة الفارسية ومهارتها. ومما يدعم ذلك صورة الكأس في البيت الموالي. فقد جمعت بين حضارتين حضارة فارسية تجسدت في رمزية صورة كسرى عظيمها، وفي ذلك استحضار للأمجاد الغابرة، وقد احتلت من الكأس مركزها، وبين حضارة عربية تحتل جنبات الكأس من خلال مشهد الصيد، وبذلك تبقى الحضارة الأمّ هي الأصل، وعليها المدار، وهذه الصورة تعكس أيضًا خضرمة تكوين الشاعر. فهو محطة خصبة لتلاقح ثقافتين انعكستا على فم أبي نواس وأثرتاه: الحضارة الفارسية والحضارة العربية. وتدعم هذه الثنائية (ازدواجية الثقافة) في الكأس التي تملأ مناصفة ماءً وخمرًا: فللخمر ما زرّت عليه وجوههم وللماء ما دارت عليه القلانسُ هكذا تلوح القصيدة ظاهرًا وباطنًا، قناعًا ووجهًا. فهي تبدو في الظاهر خمرية ولكنها مراوغة تعكس من المسكوت عنه الشيء الكثير. فإذا هي ذات أبعاد رمزية يرثي فيها الشاعر حضارته الأصيلة ويقف إجلالًا لها وتعظيمًا. وينبه الباحث إلى أن الإشادة بالحضارة الفارسية لا ينبغي أن يُحمل على أنه نزعة شعوبية، بل هو حنين طبيعي إلى الحضارة الأمّ تمامًا مثلما ظلّ الكثير من شعراء صدر الإسلام البدو خاصة، يحنّون إلى الحياة الجاهلية نظرًا لإحساسهم بالغربة والشرخ الكبير بين المرحلتين. وبذلك فإن الغرض الشعري يقدّم أفق انتظار معين ويفرضه على القارئ. ومن شأن ذلك حجب جمالية النص وتعدّد المعاني فيه وإمكانات تأويله على النحو الذي جرى إبرازه في هذه القصيدة؟. استنادًا إلى الشرح الذي يقدمه الباحث لهذه القصيدة، فهي تجسّد كأحسن ما يكون نهج أبي نواس في ترويض المدونة الشعرية السابقة له ومحاورتها وفق منطلق الأخذ والإضافة. فهو يعزف على آلة الشعر القديم أنغامًا تعكس بصمات ذاتية وخصوبة ثقافة هذا الشاعر الكبير، كما أن هذه القصيدة ترسّخ منزلة الخمرية عند أبي نواس باعتبارها منهجًا شعريًا جادًا قابلًا للتأويل منفلتًا من قيود الغرض الأوحد. ذلك هو تفسير الباحث التونسي وشرحه لقصيدة أبي نواس: ودار ندامى عطّلوها وأدلجوا. والتفسير والشرح يقعان في محلهما. وحسنًا أشار الباحث إلى أن إشادة أبي نواس بالحضارة الفارسية لا ينبغي أن يُحمل على أنه نزعة شعوبية، بل هو حنين طبيعي إلي الحضارة الأمّ.. ذلك أن الباحثين العرب المحدثين في القرن العشرين اختلفوا في مسألة الإشادة هذه وفيما إذا الشاعر انطلاقًا من إشادات ومواقف أخرى له، هو شعوبي. كان طه حسين يرى هذه الشعوبية، في حين كان عبد القادر القطّ ينفيها نفيًا تامًا فيقول: كيف يكون أبو نواس شعوبيًا وقد وقف في صراع الشقيقين: الأمين والمأمون إلى جانب الأول وتحمل وزر هذا الموقف؟ وفي اعتقادي أن أبا نواس لم يكن شعوبيًا رغم كل مظاهر احتفائه بالحضارة الفارسية، وإنما كان مع ما نسمّيه اليوم بالحداثة والتقدم وعدم الاعتقال في الماضي، بل الانفتاح على العصر والمستقبل. وفي هذه القصيدة ودار ندامى نجده يحتفي بتقاليد وقيم عربية، وبمظاهر حضارية فارسية الأصل. فهو عربي ومنفتح على مظاهر الحضارة عند الأجانب، وليس منخلعًا من عروبته، رغم كل نقده المعروف للقيم والتقاليد القديمة. ويعرض الباحث للتناص وخلفياته. ثمة خلفية فنية تتمثل في اهتمام الشاعر بمنزع الحماسة، فلا غرابة والحالة هذه من أن تتماثل الأقوال وتهاجر النصوص. وللحماسة لوازم معروفة ومقتضيات مألوفة يتوارد عليها الشعراء. وهناك خلفية تكوينية تتمثل في التلمذة. فقد تتلمذ أبو الطيب على أشعار سلفه حتى غدا أبو تمام الأب الروحي للمتنبي. وفي كتب الأخبار إشارات إلى أن المتنبي كان يحفظ ديوان سلفه عن ظهر قلب ويصحبه في أسفاره. وثمة خلفية حضارية تتمثل في ظاهرة الاشتراك في السياق الحضاري العام الذي عاش فيه الشاعران. ذلك أن الدولة الإسلامية قد شهدت في القرنين الثالث والرابع جملة من القلاقل التي تؤذن بسقوط الخلافة العباسية المركزية، ما دفع بالأعداء إلى التحرش بتخومها على نحو مطّرد. وما قصائد المتنبي وأبي تمّام في وصف معارك المسلمين ضد الروم إلا شواهد على هذه الظرفية الحرجة. ولما كان الأمر على تلك الشاكلة كان لزامًا على الشعراء أن ينهضوا بوظيفة التعبئة والتحفيز لجنود الأمة بغية كشف النغمة. وبذلك استعاد الشاعر وظيفته القديمة التي ظهرت في العصر الجاهلي، فعضد اللسان عمل الفرسان، وحرّض القلم الهمم. الكتاب جيد ومؤلفه يستفيد من مناهج النقد الحديثة فيطبقها على دراسات شتى يحتويها الكتاب.
مشاركة :