الناقد صلاح فضل: الكـثـيــر ممـّا يُكـتب الآن يـقع في منطقة الجفـاء!

  • 11/14/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

فنون الكتابة في العصر الرقمي» عنوان ينبئنا بوضع أطر لأشكال الكتابة وفنونها في هذا العصر الجديد، بيد أن الناقد المصري صلاح فضل، الذي قدم مساء الاثنين (27 أكتوبر) محاضرة تحت هذا العنوان، ضمن فعاليات الموسم الثقافي الجديد لـ«مركز الشيخ إبراهيم للثقافة والبحوث»، عصف بمجموعة من الأسئلة الساكنة، دون تأطير أو تنظير لفنون الكتابة في هذا الفضاء. فعبر محاضرته -التي بُثت مباشرة عبر منصة «اليوتيوب» التابعة للمركز- تطرق فضل لمجموعة من الإشكالات المتعلقة بإفرازات الفضاء الرقمي وفنون الكتابة فيه، ليترك باب السؤال مشرعًا لأولئك النقاد الشباب وغيرهم، على أمل أن يضعوا الأطر والنظريات، مانحًا إياهم بعض التلميحات الأساسية التي يفترض بالناقد أن يرتكن إليها في سياق التأطير والتنظير.أرق الافتراضي«فنون الكتابة في العصر الرقمي تشكل هم يؤرقني»، بهذه العبارة يبدأ صلاح حديثه عن أرق مرتبط بالأشكال الكتابية الحديثة التي أفرزتها الوسائط الجديدة، مقرًا بأن الوسائط، على مر الأزمنة، «خلقت تحولات نوعية»، منذ النقوش الحجرية وصولاً للطباعة، بيد أنه يلفت إلى أننا «لم نقم بجهد علمي ومنطقي منظم لعملية تجنيس الأنواع الكتابية الرقمية حتى الآن»، فعلى مدى العقدين الأخيرين من القرن الـ(21) «انتقلت الكتابة نقلة مذهلة، غيرت طبيعة الإنتاج، وطبيعة الوسائط الناقلة، إلى جانب تغيير طبيعة التلقي للأعمال الكتابية، فالوسط الرقمي يفتح مجالات مذهلة لم يكن يحلم البشر بها، مخترقة حيز المكان، وناسفة الحدود الفاصلة، حتى في سياق الفنون الكتابية المألوفة».ويلفت فضل إلى أن الفنون الكتابية انقسمت إلى شعر ونثر، وأضاف لها طه حسين شكلاً ثالث هو «القرآن»، فهو ليس شعرًا صرفًا ولا نثرًا، ولهذا يتخذ حالة بحد ذاته، بيد أن هذا التصنيفات أضحت مبهمة في ظل الفضاءات الرقمية، إذ يبيّن «الكتابة الآن تحررت من قيودها القديمة، ومن شروطها الموضوعية، فسابقًا كان التمرد يتم عبر قنوات محدودة، حيث يبدأ الكاتب تجربته باستعراض كتاباته على محيطه الصغير من أصدقاء، فإما يشجعونه، أو يحبطونه، فإن توفر له شيءٌ من النصيب لجأ إلى ناشر يأخذ بدوره تحكيم ما إذا سيلقى هذا الكتاب رواجًا أم لا، ثم تأتي وسائط الكتب والمجلات التي كرّست بعض الأسماء، لتقوم هذه الأسماء بدورها بتكريس أسماءً غيرها، والتقديم لها والإشادة بمنجزها، وكانت العملية تتم وفق تنازع عدد من القوى: الكتابة أولاً، والقراء ثانيًا، والنقاد ثالثًا»، مؤكدًا أن النقاد يوكل إليهم «تنظيم منظومة القيم» ضمن هذه العملية، إلا أن العقدين الأخيرين -ويوضح هنا أنه لا يقول ذلك أسفًا أو نادمًا- «ظهر الواقع الافتراضي، ليملك كل إنسان حرية الفكر، دون استئذان من أحد، وصار يختار من يحيطون به من أصدقاء، ممن يتعاطفون معه، ويشيدون بما يكتب»، وهنا يثير فضل أول أسئلته: «ترى ما مقدار القيمة الحقيقية لهذه الكتابات؟».بين الأدب وما يكتب في الفضاء الرقمييلفت صلاح إلى أنه لحسن الحظ -كما يقول- «معظم الكتابات هي من قبيل النثر، إذ إنها لا تدعي الشعرية كثيرًا»، وبطبيعة الحال هذه النتيجة تتعلق بما مر بصلاح، لا بالواقع بصورته الإجمالية، ولكن بغض النظر عما إذا كانت تدعي الشعرية أو لا تدعيها، فإن صلاح يؤكد ضرورة إعمال النقد الذاتي، متسائلاً: ألا يزال للأدب في هذا الفضاء ميزاته النوعية، وخصائصه التقنية، وحضوره الفعلي، وقوته التأثيرية؟ وهل أضحى الإعلام بكل أشكاله، خاصة الحديثة منها، منافسًا من حيث التأثير والجاذبية للأدب؟ وهل بات الإعلام بأشكاله الحديثة، يشوش على الأدب، ويطمس معالمه، ويخبئ جذوته ووهجه وجاذبيته؟ هل ما زلنا قادرين -عندما نطالع الكتابات على منصات التواصل الاجتماعي التي أخذت تدمج اللغة بالصورة، وتمارس قدرًا من التفاعل، وتملك أدوات الانتشار والمباغتة- على بلورة خواص الأدب الجمالية، أم أنها أوشكت على محو معالمها حتى بتنا لا نستطيع التمييز الدقيق بين ما هو إعلامي خبري، وما هو فني جمالي؟وبناءً على هذه الأسئلة، يؤكد صلاح ضرورة «أن يبقى التمييز بين الأدب وغيره، قائمًا وفقًا للمفاهيم الكلاسيكية»، مشيرًا إلى أن الكتابات في الفضاء الرقمي «تفتقد عنصرين جوهريين، هما التخييل، واللغة»، موضحًا أن «الأدب لا بد أن يشتمل على نوع من التخييل، شعرًا كان أو سردًا أو مسرحًا... فطاقة التخييل تخلق واقعًا جماليًا، يرسم حدًا فاصلاً بين الأدب وغيره»، أما اللغة، بوصفها أداة، فلم تعد مقتصرة على اللغة الطبيعية -ويعني صلاح هنا تداخل الأشكال الأخرى من صور وعناصر تحسب بوصفها لغات، بصرية أو سمعية، إلخ.. بيد أنها غير اللغة الطبيعية التي يجب أن يكتب الأدب بها حصرًا، كما يقول-، مبينًا «اللغة ذات قيمة في ذاتها، وهي أقدم الفنون، وأزخرها بالدلالة، وأحفلها بالمعنى، وأقدرها على التأثير».فضاءٌ من الإبهام والالتباسحين يؤكد فضل أن الكتابة الرقمية محاطة بكثير من الإبهام، والالتباس، والغموض، فإن قوله هذا مسنود إلى كونها «لم تخلق نقادها بعد»، فليست القضية بالنسبة لفضل مقتصرة على خلق مبدعين لهذه الفنون الكتابية وحسب، بل يتوجب «أن تهتدي لمنظرين ونقاد، بالإضافة للقواعد المرنة التي تقومها».كما يرفض فضل محاولات بعض النقاد في وضع أشكال الكتابة الجديدة في ذات القوالب المفاهيمية، والنقد القديم، مبينًا «علينا أن نستفيد من منطق هذه القوالب القديمة، ومن جوهرها، وفلسفتها الجمالية، وتجاربها، إلى جانب خبرتنا العميقة بها كنقاد، بالإضافة للاستفادة من المناهج النقدية، والأساليب التحليلية، والطرائق الجمالية... ولكن، دونما تطبيق حرفي على الفنون الكتابية الجديدة».ويتابع فضل سيل أسئلته، متوقفًا أمام خلود هذه الأعمال وبقائها. فأمام هذا الكم الكبير من الكتابات التي تظهر بكثرة، ما الذي سيبقى منها؟ وهل لها مواصفات البقاء، حتى تمثل ذاكرة خالدة؟ ثم يتابع، متسائلاً عن وعائها المتمثل في «الإنترنت»، وكيف سيحفظ هذه الكتابات؟ مع الاعتبار لقيمتها ومستوياتها، وتحديد ما يستحق البقاء منها.«أما الزبد فيذهب...»لا ينفك فضل عن تأكيد أن كل ما هو رديء يذهب جفاءً، إذ «سيبقى دائمًا الإبداع الذي ينفع الناس، ويدهشهم»، مؤكدًا أن «كثيرًا مما يكتب الآن يقع في منطقة الجفاء». ولهذا يعود فضل لأهمية النقد والنقاد، بيد أن اشتغالهم في هذا الحقل ليس بالأمر السهل، إذ يتساءل: «كيف سيتيسر للنقاد أن يعيدوا النظر في المفاهيم المؤسسة للكتابة بأنواعها المختلفة؟ وكيف سيواجهون مشكلة تشذبها الشديد، وتنوعها اللانهائي؟ وكيف سيستطيعون وضع حدود نوعية، ومواصفات تقنية لأشكالها المختلفة؟ ثم كيف لهم أن يؤلفوا المعايير التي يحكم بها على مستويات الكتابة المختلفة، والتي لا يمكن أن تضلل بالاستحسانات التي يحصل عليها الكاتب من خلال الإعجابات (اللايكات)؟».ويختم بأن الإعجابات شكل مضلل إلى أبعد حد، إذ إن الفنون الكتابية ليست مسألة انتخابية؛ ينجح فيها من يحصل على أكبر قدر من الأصوات (أو الإعجابات)، لذلك يؤكد فضل أن الشهرة التي يحصل عليها بعض الكتاب في العالم الرقمي تجسيد لقيمة مؤقتة، بيد أن هذه القيمة لا يمكن أن تكون جمالية أو فنية!

مشاركة :