لا شك أن تاريخ بنك الكويت الوطني الذي أسس عام 1952 ليس مجرد قصة نجاح فريدة وملهمة لبنك انطلق وارتقى سلم النجاح والريادة في العمل المصرفي، ليكرس موقعه اليوم كأحد البنوك الرائدة في المنطقة، بل يوثق أبرز المحطات التاريخية التي شهدتها الكويت، وكيف ساهم البنك في تحقيق الاستقلال الاقتصادي والمالي قبل انجاز الاستقلال السياسي الكامل وما لعبه من دور حيوي في دعم الاقتصاد الوطني في مراحل حاسمة من تاريخ البلاد. ويحتفل البنك اليوم بذكرى افتتاح أبوابه للجمهور لأول مرة في 1952، كأول بنك وطني في البلاد، وأول شركة مساهمة في الكويت ومنطقة الخليج العربي. وتحمل احتفالية العام الحالي معاني خاصة، لأنها تأتي مواكبة للذكرى الـ 68 لبدء نشاط البنك الفعلي وتقديم خدماته للعملاء، والتي تمثل تتويجا واستمرارا لمسيرة من النجاح تحول خلالها «الوطني» من بنك صغير انطلق من مساحة 3 دكاكين وبضعة موظفين يعملون بالأساليب اليدوية البدائية، إلى أحد أكبر مصارف المنطقة وأكثرها ربحية وريادة وابتكارا. وإذا كان الجميع يعرف جيداً تاريخ استقلال الكويت السياسي في 1960، فإن الذي لا يعرفه أغلب الناس أن عام 1952 شهد نوعاً آخر من الاستقلال لا يقل أهمية عن الاستقلال السياسي، وهو الاستقلال الاقتصادي، من خلال انطلاق عمليات «الوطني» كأول بنك كويتي 100 في المئة. في عام 1952 ظهرت إلى الوجود شركة مساهمة صغيرة لم يتجاوز رأسمالها مليون دينار فقط، وحملت اسم بنك الكويت الوطني المحدود، لتعلن بدء عهد جديد من الحرية والاستقلال الاقتصادي للكويت التي عاشت سنوات طويلة تحت الانتداب البريطاني. ولتعلن استقلال المنطقة كلها، والتي لم تكن تضم مؤسسة مالية وطنية واحدة في ذلك الوقت العصيب من تاريخها. فقبل عام 1952، لم يكن في الكويت سوى بنك أجنبي واحد هو البنك البريطاني للشرق الأوسط في الكويت، الذي تم افتتاحه رسميا في فبراير 1942 أثناء الحرب العالمية الثانية. ومنذ عام 1949، شعر القائمون على البنك البريطاني في الكويت بعدم رضا المواطنين الكويتيين عن نشاطاته وخدماته، كما علموا أن هناك تفكيرا لدى بعض التجار الكويتيين وميلا لتأسيس بنك خاص بهم. وتم الكشف مؤخراً عن عدد من الرسائل السرية كان قد كتبها المعتمد البريطاني في الكويت إلى وزارة الخارجية البريطانية، يعبر فيها عن قلقه وتخوفه من تأسيس البنك الوطني، وكيفية القيام بمحاولات لعرقلة تأسيسه واستمراره. فكرة التأسيس ظهرت لأول مرة فكرة تأسيس بنك كويتي وطني يخدم المصالح الوطنية بالدرجة الأولى، ويأخذ على عاتقه تطوير وتنمية الاقتصاد الكويتي وإنعاش السوق التجاري، وتنمية مدخرات المودعين وحفظها في 1952. وبالفعل عقد كل من: أحمد سعود الخالد، وخالد زيد الخالد، وخالد عبداللطيف الحمد، وخليفة خالد الغنيم، وسيد علي سيد سليمان، وعبدالعزيز حمد الصقر، ومحمد عبدالمحسن الخرافي، ويوسف أحمد الغانم، ويوسف عبدالعزيز الفليج، اجتماعا مع المغفور له الشيخ عبدالله السالم الصباح، الذي بارك لهم الفكرة ووعدهم بالدعم والتأييد. وكان عقد تأسيس فرع البنك البريطاني في الكويت مع حكومة الكويت ينص على عدم السماح بإنشاء بنوك أخرى في الكويت، وكان رأي أمير الكويت الشيخ عبدالله السالم حينئذ أن ذلك لا ينطبق على إنشاء بنوك كويتية داخل البلاد. مرسوم أميري هكذا سمح بإنشاء «الوطني» في 19 مايو 1952، حيث صدر المرسوم الأميري الخاص بإنشاء البنك. وفي 15 نوفمبر 1952، افتتح البنك للعمل رسميا باعتباره شركة مساهمة كويتية للقيام بالأعمال المصرفية. ويعد البنك أول مصرف وطني في الكويت والخليج على الإطلاق. وتكون مجلس إدارته وجميع المؤسسين من الكويتيين الذين لهم نشاط تجاري عريق داخل الكويت وخارجها. وقد تأسس البنك برأسمال قدره 13.1 مليون روبية، أي ما يعادل مليون دينار فقط، موزعة على 13.1 ألف سهم بقيمة ألف روبية للسهم الواحد. وفي مبنى صغير يقع في الشارع الجديد بدأ العمل بعدد قليل من الأفراد لم يتجاوز عدد أصابع اليد، وبمساحة لا تتجاوز 3 دكاكين، وزاول في بداياته أعمالا مصرفية بسيطة وبدائية تتلخص في الاعتمادات التجارية، وتبادل العملات، وحوالات مصرفية بسيطة، وإيداعات وسحوبات. هكذا كانت البداية، ولكن «الوطني» أثبت مع مرور الأيام كفاءته وجدارته مساهما وراعيا لحركة النهضة في الكويت، وليقدم كل أنواع الدعم للأفراد والمؤسسات لتمويل إنشاء مشاريع البنية التحتية في كويت الخمسينيات، حيث كان البنك الكويتي الوحيد آنذاك. استبدال العملة لعب «الوطني» دورا رئيسيا في استبدال العملة المحلية مرتين، أولهما في مايو 1959 عندما استبدلت أوراق النقد من الروبية الهندية بأوراق روبية جديدة سميت بروبيات الخليج. أما الاستبدال الثاني فقد كان في أبريل ومايو 1961، عندما أصدر مجلس النقد الكويتي دنانير كويتية بدلا من أوراق النقد من روبيات الخليج، وكان هذا الاستبدال ضرورة من ضروريات الاستقلال، وإعطاء طابع الشخصية المستقلة لتتمتع الدولة بالسيادة على اقتصادها ونقدها. تمويل التنمية يمثل البنك أكبر ممول رئيسي لكل مشروعات التنمية الحكومية، وكذلك القطاع الخاص، كما يستحوذ على حصة مهيمنة في مجال التمويل التجاري وتمويل الشركات الأجنبية العاملة في تلك المشروعات، ويمثل ذلك امتداداً لمسيرة من دعم التنمية الاقتصادية والمساهمة في بناء كويت حديثة. في السبعينيات، استمر «الوطني» في تمويل مشروعات البنية الأساسية والتنمية في الكويت الحديثة. وتمثلت تلك المشاريع في محطات تحلية المياه ومحطات الكهرباء، وشبكات الطرق، وبناء وتطوير حقول ومصافي النفط والخدمات المساندة لها، وخدمات الاستيراد وبناء المستشفيات والمدارس ودعم حركة التوسع العمراني في البلاد، ففتح بذلك نوافذ المستقبل أمام الكويت. كما بدأ تكوين الشخصية المؤسسية الحقيقية للبنك، من خلال خطط التطوير وإعادة الهيكلة والتنظيم، وقد كانت هذه الفترة اللبنة الأساسية التي قامت عليها نهضة البنك. ملاذ آمن خلال الثمانينيات، اجتاز «الوطني» اختبارا قاسيا، حين وقعت أزمة انهيار سوق الأسهم والمسماة أزمة «سوق المناخ» عام 1982، وقد كان أسلوب العمل المصرفي المتزن والمتحفظ للبنك خلال هذه الفترة جعله الوحيد الذي لم يتأثر سلبا. ونتيجة لذلك أطلق عليه اسم «البنك الفائض الوحيد»، وكان «الوطني» قد حذر مرات عديدة في تقاريره ونشراته الاقتصادية من خطر هذه الأزمة قبل وقوعها وقبل أن يتضرر منها كثيرون. ثم جاءت أزمة الاحتلال العراقي للكويت في 1990، والتي كانت اختبارا كبيرا لصلابة موقف البنك، حيث استمر في أداء أعماله من خارج الكويت والوفاء بجميع التزاماته نحو عملائه وللبنوك في الخارج، كما كان له دور رئيسي في تمويل مشاريع إعادة إعمار الكويت. وقد أدى ذلك الأداء المميز للبنك خلال هاتين الأزمتين إلى دعم واستمرارية الثقة من قبل عملاء البنك وتعزيز ثقة البنوك العالمية به. تطور مستمر خلال التسعينيات وبعد تحرير الكويت، لعب البنك الوطني دورا رائدا وأساسيا في خدمة الاقتصاد الكويتي عن طريق إدارة القروض العملاقة من بينها القرض الذي رتبه بعد تحرير الكويت عام 1991 لمصلحة الحكومة وقدره 5.5 مليارات دولار، وهو أكبر قرض عرفته المنطقة العربية وقتها. ويمكن القول إن التسعينيات ونهاية القرن العشرين هي الحقبة الذهبية للبنك، التي ظهرت خلالها ملامح النضج والازدهار المصرفي والانطلاق إقليميا وعالميا، وأصبح لدى البنك اليوم عشرات الفروع في الكويت وفروع ومكاتب تمثيل وشركات خارجية في كل من نيويورك، ولندن، وباريس، وجنيف، وسنغافورة، وفيتنام، وتركيا، والصين إلى جانب لبنان، والبحرين، والأردن، وقطر، والإمارات، والعراق، والسعودية. ومع بدايات القرن الواحد والعشرين، نجح «الوطني» في أن يكون سوقا ماليا متكاملا للخدمات المصرفية والمالية المتطورة ولجميع شرائح عملائه من الأفراد والشركات والمؤسسات الكبيرة. كما عزز من مكانته كمصرف تمويلي استثماري شامل من خلال العديد من الصفقات على مستوى منطقة الشرق الأوسط. تحول رقمي أبرزت جائحة «كورونا» أهمية الخدمات المصرفية الرقمية ووسائل الدفع الإلكترونية لمستقبل القطاع المصرفي. وهو ما يثبت نجاح رؤية «الوطني» الثاقبة والاستباقية في تطبيقه لاستراتيجية التحول الرقمي وتطوير خدماته المصرفية الرقمية في السنوات الأخيرة، ما أضاف لنهج البنك مرونة أكبر ساهمت في إثراء التجربة المصرفية للعملاء، وتلبية احتياجاتهم المصرفية المتنوعة. وكان «الوطني» أول من أطلق خريطة للتحول الرقمي بين بنوك المنطقة، ما ساهم في ترسيخ ريادته في تقديم أحدث الخدمات المصرفية الرقمية ووسائل الدفع الإلكترونية، حيث أصبحت الثقافة الرقمية جزءاً من نسيج منظومة عمل البنك والمنتشرة عبر كافة وحدات أعمال المجموعة والأسواق المختلفة التي يعمل بها وقد منحت مجلة «غلوبل فاينانس» العالمية الوطني جائزة أفضل بنك في تقديم الخدمات المصرفية الشخصية الرقمية، وجائزة أفضل بنك في تقديم الخدمات المصرفية عبر الموبايل على مستوى الكويت لعام 2019. توسع وتنويع أصبح «الوطني» بفضل مؤسسيه وموظفيه وعملائه وكل أصحاب المصالح علامة تجارية كويتية رائدة عابرة للحدود تمتد في 4 قارات. فعلى الرغم من تركيز العمليات الرئيسية للبنك في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؛ فإنه يسعى للحفاظ على طابعه الدولي، وانتشاره في العديد من الدول؛ وخير دليل على ذلك الانتشار الدولي للمجموعة في كل من الصين، وفرنسا، وسنغافورة، وسويسرا، وتركيا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة الأميركية. كذلك تتنوع عمليات البنك بين: الخدمات المصرفية الشخصية والخاصة، والخدمات المصرفية للشركات، الخدمات المصرفية الإسلامية من خلال بنك بوبيان التابع للمجموعة، والخدمات المصرفية الاستثمارية وإدارة الأصول من خلال شركة الوطني للاستثمار التابعة للمجموعة. ويمثل تنوع مصادر الدخل جغرافياً وقطاعياً ركيزة أساسية في استراتيجية «الوطني» لتحقيق نمو مستدام، حيث ساهمت العمليات الدولية في زيادة حجم أعمال المجموعة، في الوقت الذي يتم فيه التركيز على النمو بالأسواق الرئيسية في السعودية ومصر، بالإضافة إلى مواصلة النمو في السوق الكويتي. وفي إطار سعي البنك للتوسع في الأسواق الرئيسية، التي يعمل بها يدعم «الوطني» أنشطة شركة إدارة الثروات بالمملكة وربطها بمنصة البنك العالمية لإدارة الثروات، تزامناً مع السعي لزيادة المنتجات والخدمات المصرفية التجارية لبيع منتجات وخدمات المجموعة لعملاء البنك في المملكة، يهدف البنك في مصر إلى التوسع بسوق التجزئة، عن طريق التركيز على تعزيز اكتساب العملاء، وتسهيل إتمام معاملاتهم والاستثمار في الخدمات المصرفية الرقمية. صلابة ونمو يتمتع «الوطني» بمركز مالي صلب يرتكز إلى قاعدة ودائع متنوعة ومستقرة ومستويات قوية من الرسملة وجودة الأصول والسيولة المريحة، والتي تنعكس على صلابة المركز المالي للبنك، والتوسع المستمر في ميزانيته العمومية، من حيث نمو أصول البنك التي قارب الوصول إلى 100 مليار دولار بنهاية سبتمبر الماضي بدعم من النمو المتواصل في محفظة القروض، التي بلغت 57.6 مليار دولار. ويعد البنك أكبر مؤسسة مالية في الكويت، ويتمتع بهيمنة فعلية على قطاع البنوك التجارية. وحافظ على أعلى التصنيفات الائتمانية على مستوى كل البنوك في المنطقة بإجماع وكالات التصنيف الائتماني المعروفة: موديز، وستاندر آند بور، وفيتش، كما يتميز «الوطني» من حيث شبكته المحلية والعالمية. ورغم جائحة «كورونا» فإن البنك أثبت قدرته على تخطي الأزمات والحفاظ على نمو أصوله وصلابته المالية، فما أشبه اليوم بالبارحة في تخطي الأزمات بثبات ليكمل مسيرة النمو ويصنع المجد، فعندما أثبتت الأزمة المالية في 2008 صحة خيارات «الوطني» الاستراتيجية والاستثمارية، وقدرته على التعاطي مع الظروف الاقتصادية السيئة، مقدما بذلك نموذجا يحتذى، قاست شريحة واسعة من مؤسسات القطاع المالي في الكويت والمنطقة.
مشاركة :