لمناسبة مقتل العقيد حسان الشيخ برصاص سليمان الأسد، والوقفة الاحتجاجية التي تلته في مدينة اللاذقية، شهدت وسائل التواصل الاجتماعي جدلاً سورياً حول مغزى الاحتجاجات والطريقة التي ينبغي للمعارضة أن تتعاطى بها معها. جدل يمكن القول أنه متجدد، إذ ينبش خلافاً قديماً بين طرفين ينسبان نفسيهما إلى الثورة، واحد منهما يرى عزوف معسكر الموالاة عن الثورة شأناً طائفياً يستحيل تغييره، والآخر يرمي المسؤولية على المعارضة التي لم تحسن تقديم خطاب يطمئن معسكر الموالاة. يمكن القول أيضاً أن هذا الخلاف، جرياً على عادة خلافات أخرى معلنة، هو كناية عن خلافات وحساسيات لا تُعلن صراحة من جانب الطرفين، ولا تُناقش بقصد تسويتها بمقدار ما يكون تقاذف الاتهامات في مناسبة جديدة سبيلاً ليشدّد كل طرف على الحساسيات المضمرة. فوق ذلك، بوجود معارضة يسهل النيل من أدائها ستملك الأخيرة جاذبية تحميلها المسؤولية، الأمر الذي لجأت إليه قوى دولية سابقاً بقصد التعمية على المشاكل الحقيقية، أو على عدم نضج مقومات الحل. من الضروري التذكير بأن تلك القوى لم تنظر إليها كمعارضة وطنية جديرة باستلام السلطة، وأعلى ما وصلته قبول أحقيتها بالمشاركة مع النظام الذي يُنتظر منه تبديل رأسه. الجدل الثوري السوري الأخير تجاهل الواقع كعادته، فأصحاب الوقفة الاحتجاجية في اللاذقية نزّهوا أنفسهم عن أية شبهة ثورية، سواء برفعهم صور رأس النظام أو بالإعلان عبر صفحات التواصل الاجتماعي عن أن تحركهم لا يلتقي أبداً مع «المعارضة الإرهابية»، ولا ينقض ولاءهم المستمر لبيت الأسد. النظام لاقى أنصاره بالقبض على ابن الأسرة «الأرعن»، السلوك الذي رفضه عندما طالب أهالي درعا بمحاكمة عاطف نجيب (ابن خالة بشار الأسد)، بمعنى أنه كان وفياً هذه المرة لأدواته الطائفية، ولو على مضض، وحتى إذا أتى تصرفه الأخير بداعي الضعف الشديد فحسب. إلا أن أهم ما يقفز عنه الجدل المتجدد هو لحظة الثورة، بصفتها أيضاً لحظة تأسيس للانقسام الحالي، المعارضة وأداؤها شأن لاحق كذلك هي الحرب. طوال أشهر من الطور السلمي والتظاهرات ومواجهتها بالوحشية المفرطة كان معسكر الموالاة يردد مقولات النظام عن الإرهابيين، وأكثر من هذا يصف سكان المناطق الثائرة بمختلف النعوت العنصرية متوعداً إياها بالإبادة والدمار. ما تجدر مواجهته بصراحة، أن الثورة طرحت نفسها بديلاً وطنياً لوطن تبين عدم وجوده في الأصل، ولم يكن نصراً لها الكشفُ عن هذا الواقع، وبالطبع لم يكن نصراً للنظام الذي أسفر عن وجهه كـ «ممثل» لقسم من السوريين ومحتل لمن تبقى منهم. بدءاً من لحظة التأسيس مرت تطورات مهمة، في مقدمها بروز العامل الخارجي، لكن ما تجب ملاحظته جيداً عدم تزحزح التموضعات الداخلية بين معسكري المعارضة والموالاة الأساسيين. فرضية استمالة جمهور إضافي إلى معسكر «الثورة» لا سند لها، بفعل لحظة التأسيس وبفعل تطورات الحرب بين الطرفين، ومنذ أكثر من ثلاث سنوات صار واضحاً أن ما يخسره النظام لن يصب مباشرة في خندق الثورة، وإن كان يصب في مسار نهايته. لدينا تجربتان حتى الآن تشيران إلى الخيار الثالث، تجربة «مشايخ الكرامة» لدى الدروز وتجربة الإدارة الذاتية الكردية، في كل من التجربتين انفكاكٌ ما عن النظام، وإعلان في المقابل عن عدم الذهاب مع المعارضة. يجوز القول أن هاتين التجربتين نضجتا من بذور لحظة الانقسام ذاتها، فقسم من مشايخ الدروز عمل منذ البداية على مبدأ الحياد والنأي بالنفس كحل يحافظ على التماسك الداخلي ويحمي من بطش النظام. وعمل أصحاب الإدارة الذاتية الكردية مبكراً على إقصاء الشباب الكردي المشارك في الثورة، وصولاً إلى تكريس مبدأ التعامل مع قوات النظام أو فصائل المعارضة وفق ما تقتضيه كل حالة أو منطقة تنازع. في السياق نفسه تأتي مسألة توقف الانشقاقات في صفوف مسؤولي النظام، وفي صفوف قواته، منذ ثلاث سنوات، ما يؤشر إلى أن غالبية الفاعلين حسمت موقفها في الصراع. وإذا أخذنا في الاعتبار التأثيرات الخارجية، منذ جنيف 1 قبل ثلاث سنوات صار واضحاً عدم وجود نية لإسقاط النظام عسكرياً، وانعدم حافز مغادرة المركب الذي يُجرى تعويمه باستمرار، ثم تولت صفقة الكيماوي تبديد أي وهم من هذا القبيل. تجذر الانقسام واستمراره لا يعنيان أن الأسد قدر الموالاة الأبدي، وإن كانا يعنيان تهافت المراهنة «الثورية» على تحول دراماتيكي طال انتظاره، وثبت تهافت التطلع إليه بعد «التضحيات» التي قدمها الموالون. لن يتآكل معسكر الموالاة لمصلحة الثورة لأسباب عدة، هذا في أحسن أحواله تطلع شديد الرومانسية، أما أن تزداد التناقضات الداخلية ضمن صفوف الموالاة كلما عجز النظام عن الحسم فشأن مختلف تماماً، قد يصل بمساعدة خارجية إلى التضحية بالأسد بدل التضحية من أجله. الخلاصة الأخيرة هي ما ينتظره الكثير من القوى الدولية والإقليمية، لوضع الحل السياسي على السكة المعدة له. بهذا المعنى، لا يخذل الموالون أهلَ الثورة بعدم الانضمام إليها، هم يخذلون القوى التي تريد منهم أن يكونوا نظاماً بمعزل عن العائلة الحاكمة. فرضية الحل السياسي مبنية أصلاً على هذا الفصل، والجدل حول مصير الأسد مستمر بسبب عدم القدرة على إقامته، فحلفاؤه يهددون بأن رحيله سيعني تلقائياً انهيار النظام برمته، الأمر الذي لا تريده الإدارة الأميركية تحديداً. لقد هُزم النظام فعلياً مُذ تبين فشله في مواجهة التظاهرات، وهُزمت الثورة كإطار وطني مُذ انكشفت هشاشة الوطنية السورية، أو عدم وجودها. في هذا المناخ، التطور الوحيد الذي كان متاحاً هو تقدم الجماعات، على مختلف الأسس الإثنية والطائفية والمناطقية. وضمن مناخ الاحتراب الراهن، جريمة النظام الأكبر هي أن يوجّه أحد منه بندقيته إلى جماعته، بل إلى مقاتل «بطل» لم يكن يتوانى عن قتل «الأغيار»، لا تناقض في ذلك إلا من وجهة من لا يقيم هذا التمييز الساطع بين الجماعتين. الجدل الثوري الذي يقفز عن الوقائع، في أصدق حالاته رغبوي بامتياز، وفي حالاته الأخرى يستعير الثورة كنايةً عما لا يريد الإفصاح عنه.
مشاركة :