إنَّ رغبة الإنسان للشعر حسب نظرية جان بيار بوبييو لها بعدُ نفسي وأنثربولوجي وما يفهم من هذا الرأي أنَّ الشعر يعبرُ عن الوعي بالذات بشأن كينونتها بقدر ما يثير الأسئلة حول المصير ويختبرُ الإدراك الجمالي في تسمية المعطيات الوجودية. فلامجال للتواصل مع الأشياء وإنشاء فضاء لصورة المشاعر وتحولاتها خارج الأسماء ما يعني أنَّ الشعر يفككُ مغاليق مجهول ليضعنا أمام مجهول آخر وبهذا تستمرُ رحلة البحث عن المعنى. حول واقع الشعر في العالم اليوم وتفاعله مع الفنون الأخرى كان لنا حوار مع الشاعرة اللبنانية مريم جنجلو التي تعكسُ في قولها الشعري ظلال اهتماماتها بالموسيقى والفن التشكيلي هذا إضافة إلى أنَّ تجربتها في مجال الترجمة زادتها حساسية بهندسة الصياغة. ● أين ترَين موقع الشعر في العالم اليوم؟ - أعتقد أن الشعر الحديث في التجربة الغربية يحظى بدقة وجدّة في المتابعة والتقديم أكثر من التجربة العربية، حيث نجد تطوّره في الأولى أكثر تمهّلاً وانتقائيةً، لكن في الوقت نفسه أكثر غنًى وشموليةً من ناحية المواضيع التي يتناولها، وكذلك أكثر جزالةً وخفةً لغويةً من نظيره العربي الذي نراه ما يزال يدور بالمجمل حول القضايا الكبرى التقليدية التي انشغل الإنسان بتفكيكها منذ القدم، مثل الوطن والحب بشقّه الغزليّ. بالطبع هذا لا يعني أنّ الشعر العربيّ لا يحوي تجارب جيدة بالمجمل، غير أنه يفتقر بعض الشيء إلى التمهّل في المعاينة الدقيقة لما حوله من موجودات ومواضيع، فالعمق الحقيقي وحدّة الإصغاء إلى نداء التفاصيل هو ما يمكِّن الشاعر من صناعة نصٍّ كامل ربما من أصغر تفصيل قد يصادفه، بالإضافة طبعاً إلى اللغة الحية التي يشكّلها من حسّه الخاص والتي على بساطتها قد تحرّك الكثير لدى القراء. ● كيف يمكن للمبدع أن ينفتح على تجارب الآخرين دون أن يتأثر بهم ويحافظ على خصوصيته ؟ هل يشغلك هذا الأمر؟ - بالنسبة لي، أرى أن الغنى يكمن في اللغة الفردية التي يخاطب بها الشاعر العالم، ويستطيع من خلالها أن يحقق قفزةً نوعية في أي موضوع يتناوله إذا ما جرت صياغته بطريقة سلسة، ذكية في التقاطاتها وبعيدة عن الإسهاب التراكيبي الذي يؤخّر عنصر الدهشة في ذهن القارئ وربما يقتله في حال انسحب المشهد داخل النص نحوَ زاوية التطويل المملّ. إن الشعر كسائر الفنون خاضع بالضرورة لعامل التأثر بالقراءات وربما بتجارب سابقة ولكنه يستطيع أن يحقق بصمته الخاصة متى ما كان للشاعر نفسه صوتٌ داخليّ خاص يُجري مسحاً دقيقاً لما يجول في خاطره ويقدمه للقراء بنبرةٍ مصوغةٍ باجتهادٍ لغويّ وتصوير تخييليٍّ يمتاز بالتركيب الهادئ الذي يرتب فوضى المحاولات التعبيرية الداخلية لا بالتعقيد الذي يُقصي المعنى عن ناظريه ويشوّش آلية وصوله إليه. ● لمَ يلجأُ الشاعر إلى ترجمة نصوص غيره، هل تعتقدين أنَّ الترجمة نوع من القناع؟ - ليست الترجمة لجوءاً بقدر ما هي عملية لتحريك المياه الراكدة داخل المعجم الاستيعابي واللغوي للمترجم، لا سيّما إذا كان هو نفسه كاتباً، فالإطلاع على التجارب ذات الروافد المتنوعة أمرٌ ضروريّ، لأنه يشكّل نوعاً من الاستقراء الذهني الذي يمهّد الطريق لدى الكاتب للتواصل مع نفسه بشكلٍ أوسع، وبالتالي تعزيز قدرته على إعادة فتح نوافذ تأويلية لما يكتبه الآخرون ولكن بطريقته هو. وهنا تكمن أهمية الترجمة كونها تعيد قولبة الأفكار بلغاتٍ ثانيةٍ وبالتالي بألسنةٍ متنوعة، ما قد يثري الحقلَ الذهنيّ للمترجم والقارئ معًا، فيقفان معاً أمام تجربةٍ ذات منطلقات تأثيرية معادة صياغتها معنوياً وكلامياً، ويتلقّفانها بجدّةٍ مغايرة واختلاف كلّيٍّ عن التقنيات التي اعتمدها كاتبها الأصليّ في صياغتها. ● إلى جانب كتابة الشعر لديك اهتمام بالموسيقى، هل يمكن للنص الشعري أن يعبر عما تثيره الموسيقى في المخيلة؟ - تشكِّل الموسيقى محرّضاً جبّاراً على استثارة الانفعال الذي ينتج عنه نصٌّ ما، وبالمحصّلة فإنّ كل ما قد تنضح به قريحة الكاتب يأتي مذيّلًا بتوقيع موسيقي حال سماعه مقطوعة ما ويظهر ذلك من تناغم اللغة الواحدة في النص وتتبُّع المزاج العام الذي يسوق المشهد بأكمله. إنّ بمقدور الموسيقى أن تجلب إلى ذهن الكاتب لحظة انفعالية قد تكون الحياة المكتظة السائرة بسرعتها الجنونية قد طوتها داخل لاوعيه. هذه اللحظة بالذات إذا ما تمَّ التقاطُها برشاقة وتدوينُها هي التي قد تصنعُ النصّ الشعريّ برمّته. وهذا سببٌ كافٍ برأيي. ● ماذا عن علاقة الشعر بفنون أخرى مثل السينما أو الفن التشكيلي؟ - الكتابة عموماً مرتبطة جينياً بالفن التشكيلي والسينما، إذ يحكمها جميعها كفنون قانون المشهد المُفضي إلى المعنى، ولكنّ عملية الجمع بينها في حبكةٍ واحدة ليس بالأمر اليسير لأن هذا الجمع يخضع لعلاقة متشابكة تحتاج الكثير من التبسيط والعمق في وقتٍ واحد. المعادلة صعبة بالتأكيد، فالنّص يجب أن يحافظ على اتزانه في مجاورة العمل الفني أو داخل كادر الشاشة، وهذا يحتاج إلى مهارة في رصّ تعقيدات الكلام والصورة معاً وتقديمها في الوقت نفسه بطريقة يستسيغها الرائي دون أن تُربكَه أو تُبعدَه عن سكّة المعنى المًراد الوصول إليها. من هذا المنطلق برأيي، يستمدّ التعاون البصريّ- اللغوي نجاحه ويستمدّ عمقَه البلاغيّ والجماليّ بتضافرِ عناصر مكثّفة وتسودها الحرفية التي لا تتطلب أكثر من الجودة في تركيبها. ● هل الشاعر ناقد بالضرورة؟ - ليس بالمعنى المهنيّ للصفة بقدر ما يجب أن يكون بالمعنى الفردي، فحتمية العلاقة بين الشخصيتين الشاعرة والمثقفة لديه تُلزِمُهُ أن يرى نتاجهُ بالدرجة الأولى من زوايا مختلفة قبل طرحه على الملأ مزوّداً بأدواته التي يكتسبها من اطّلاعه الفني واللغويّ المتواصل بغية صقل الشخصية المثقفة لديه. ولعلّ المران على هذه الآلية، قد يُكسبه القدرة على إعمال العين الثالثة في تقييم نتاجات الآخرين بذائقةٍ واعية وعادلة ذات اتزان ومعقولية مختلفة في الطرح ليست إلا انعكاساً للفنان الناقد وحده دون سواه. ● ما علاقة الاحتفاء بالشعر عالمياً من خلال منح جائزة نوبل للشاعرة الأميركية لويز غليك بما يعيشهُ الإنسان من التوتر والخوف جراء انتشار جائحة كورونا؟ - ربما أتى هذا الاحتفاء النوعي هذا العام لِيضع القراء في مواجهة تفكيكية مباشرة مع انطباعاتهم التي لا يجدون سبيلًا للتعبير عنها في ظلّ وضع حرج مستجد يختبره العالم بأسره دونما سابق تصوّرٍ أو توقُع. مادام الشعر أحد الفنون ذات الإيماءات الخاطفة التي تحدّق في الداخل الإنسانيّ بخفّةٍ فإنّ اختيار غليك الذي فاجأ الكثيرين من متابعي فعاليات الجائزة حول العالم، هو نفسُهُ الذي جعلنا جميعاً نعيد النظر في الفنون الكتابية على أنها نوعٌ من توثيق لحالٍ مشتركة نعيشها جميعاً جراء انتشار المرض، إذ أننا عُدنا جميعاً لملاحظة تفاصيل حياتية دقيقة في ظلّ الحجر كانت قد قاربت على الاختفاء كليًا بفعل نمط الحياة المتسارع الذي لا ينفكّ يطحنها تحت عجلته. ● ماذا يعني لك أنك شاعرة؟ - يعنيني كثيراً أن أعي أن التقاط التفاصيل ومعاينة وقعِها الداخليّ عليّ وصياغتها بنبرةٍ خاصة بي هو جزء من تركيبتي النفسية التي وُلدتُ بها والهالة التي تؤطّر وجودي بمفردي أو في قلب الحياة النابض بالناس والأسئلة والمشاعر المختلطة التي تحتاج خيطاً ما لاقتفاء آثارها داخلَ والوَعي الإنساني. وَعلى الرغم من أنّ إدراكي لحقيقة أنّ كينونتها تشكّل حجر أساسٍ في كينونتي كامرأة وإنسانة بالدرجة الأولى، قد استلزمني طرح الكثير من الأسئلة، غير أني أثق وأسلّم بهذه الحقيقة دون أن تخيفني بعد اليوم. ربما هذا ما يعنيه بالنسبة لي أن أكون شاعرة.
مشاركة :