يجوز الشاعر ما لا يجوز لغيره

  • 11/25/2020
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

ربما يتفق على هذه المقولة أو يختلف الكثير من المهتمين باللغة وفنون الأدب ، فهي من المقولات التي درجت على ألسن العرب قديمًا وحديثًا وقصدوا منها أنه يجوز للشاعر مخالفة بعض قواعد اللغة كضرورة اختص بها الشعر عن النثر ، إذ يستعين بها الشاعر في التغلب على اختلال الوزن الشعري وهي كثيرة ليس هدفي الآن التركيز عليها . ما يهمني هو ما وراء هذه المقولة ، فقد يتبادر إلى الأذهان أننا في معرِض حكم فقهي ولكننا سنبسطها ولن ندخل في الأمور الشرعية ، لأن حديثنا في الأدب بشكل خاص . الشعراء قديمًا كانوا يمثلون الصوت المسموع كوسيلة إعلامية مؤثرة ، فبلسان شاعر تقوم حرب ويخمدها آخر وينشب خلاف بين قبيلتين يتسبب فيه شاعر ويصلحه شاعر آخر ، فما يمتلكه من لغة ومنطق وفصاحة وبلاغة ومعرفة بفنون الحديث ، جعله يتصدر المشهد ، ويكون سيد الموقف . ولا زال حتى في عصرنا هذا ، صوت الشعر من العوامل المؤثرة في كثير من القضايا والمشاهد الحية ، فلغة الشاعر ومقدرته على استخدام الأساليب البلاغية ، تمكنه من قول ما يريد ويصعب على الكثير استنطاق مقصوده ، أو قراءة ما يصبو إليه ، إذ يستخدم التصريح تارة والرمزية تارة أخرى ، حسب ما يقتضيه السياق . سأنظر إلى هذه المقولة من زاوية أخرى ، فبمجرد أن يسمع شخص إلى شاعر ما ، يتغزل في حبيبته أو صديقه أو في مدينة أو بحر أو نهر أو قمر ، اتهمه بأن حياته مقتصرة على الحب والغزل ! وما إن يسمع لشاعر آخر يشكو لوعة الفقد ويتألم ويتوجع ، أبرق لمن حوله بأن هذا الشاعر يعيش حالة اكتئاب وربما يكون مريضًا نفسيًّا ! هذه الحالة تمر على أغلب الشعراء وهذه المواقف يتعرض لها الكثير منهم ، والله سبحانه هو أعلم بالنوايا ، فليس كل من يتحدث عن الحب يعيشه ، وليس كل من يتغزل بامرأة يعشق كل نساء الكون ..! وليس كل من يمدحُ شخصًا يريد المال ! الموازين تختلف والمواقف تتغير وتتبدل حسب اختلاف وتنوع الأمزجة والحالة النفسية للشاعر ، فهو في النهاية كبقية البشر ، يحزن ويفرح ويصاب بالألم ويعيش قصة حب  أو قصة وداع أو يطالب بحق  أو يكون الشعر مصدر رزقه وكسبه . الشاعر يكتب بلسان غيره .. نعم هذا واقع تابعته من خلال مواقع التواصل الاجتماعي ، فما إن يغرد الشاعر بأبيات في الحب إلا وترى المتابعين يتسابقون لوضع شارة الإعجاب بما كتب ، ربما يكون بدافع الإعجاب الذي يعقب مرحلة الفهم والوعي بالمكتوب وربما يكون الإعجاب من حالة يعيشها هذا المتابع ، حيث يرى أن هذا الشاعر يمثله ويصف حالته !. إذاً ليس بالضرورة أن يتحدث الشاعر عن نفسه ويصف واقعًا يعيشه ، فببراعته وخياله ، يشارك الآخرين لوعاتهم وأحزانهم ويمد لهم يد العون لتخفيف أوجاعهم ، فكلماته تمثل البلسم الشافي ، الذي يخرج الناس من عارض نفسي يمرون به إلى ساحة الانطلاق بخيالهم نحو ما هو أجمل . يقول الشاعر عبدالعزيز الزنيدي (1) في هذا السياق وقد قالها من باب الملاطفة بين أصحابه : يــريد الأحــــبة تقــنينَ نبـضي * وتلوينَ حـــرفي وضـبطِ النـغـمْ فمِن قــائلٍ دعْ كـــلام الـــغـرامِ * وغـــرّد لنا من عــــميق الحكمْ إلى قائـــــلٍ دعْ حــديث العقولِ * وجســــّــدْ شعور الـــهنا والألمْ وما الشعرُ إلا انـسكاب الشعورِ * إذا ما استهـــلَّ ، أســالَ القلم ! سـواء رســـمناهُ ضــوءً ووردًا * وإلا نـــزفـــــناهُ دمعًــــا ودمْ ! إذاً من هذه الأبيات الجميلة ، يتضح لنا أن نبض الشاعر يصعب تقنينه ، فهو بين مد وجزر وبين صعود وهبوط وبين ركود وخفقان ، وآراء الناس وميولهم واتجاهاتهم تختلف من شخص لآخر ، فمن مُبحرٍ متعمق في اللغة وفنون الشعر يميل إلى الاتجاه الرومانسي ، إلى ملتزم يرى بأن الشعر يجب أن يكون مقننًا بضوابط ! وبالقول الثاني يخرجُ الشعر عن أصله ويسلب الشعور الذي يتكئ عليه الشاعر في رسم معالم قصيدته والخيال الذي يطوف به العوالم والأمكنة ، ويطوع له الزمان ويبث الحياة في الجمادات وتغني له الأشجار والمحيطات ويبكي معه القمر وتسهر معه النجوم ، هذا هو عالم الشعر ، لا ينبغي أن نؤطر الشاعر بقالب أو نضعه في دائرة محددة ، لأنه يميل إلى الانطلاق في غير مكان . يجوز للشاعر أن يكتب في أي اتجاه وبأي قلم ، يجوز له أن يتغزل ويمدح ويرثي ، متى شاء وبأي طريقة يراها تناسب لوحته ، وهذا لا يعني أنني أحثه للخروج على الضوابط الشرعية أو القيم والأعراف النبيلة ، فالمرء رهين بنفسه وأتحدث هنا من مربع التكليف كموهبة ربما تكون فريدة والشاعر خاضع للتقييم ويؤخذ من شعره ما يؤخذ ويرد ما يرد وبالتأكيد فهو ليس بمعصوم . في النهاية ليس كل ما ينقله الكاتب أو الشاعر ، يتجسد في حالته ، فربما يتقمص دور غيره للوصول إلى هدف معين ، فاقرؤوا الشعر بغرض الاستمتاع واسمعوه بأذن واعية وتأملوه بأفكار متعددة ولا تحصروا معانيه في زاوية ضيقة ، فكما يقال : المعنى في قلب الشاعر ، ومهما حاولنا أن نشرّح القصيدة ونفسر أبياتها فيستحيل أن نصل إلى ما يقصده الشاعر بالتمام ، وجمال الشعر في تعدد تأويلاته ، إذ تجد القصيدة الواحدة ، يتناوب النقاد على دراستها دراسة نقدية مستفيضة ، بقراءات ومذاهب مختلفة . إضاءات : • نزلت سورة كاملة في القرآن باسم : الشعراء ، ولم يأت ذكر الشعراء إلا في الأربع آيات الأخيرة من السورة . • لا تأخذ بالآية رقم 224 وتترك الآية رقم 227 من السورة نفسها . المصدر : (1) عبدالعزيز الزنيدي ، شاعر سعودي معروف .

مشاركة :