للشاعر سلطة في لغة الضاد. واحدة من تجليات هذه السلطة كانت في الانفلات مما تعارف عليه فقهاء اللغة من قواعد وضوابط صرفية ونحوية ولغوية وأخرى كانت في الخروج على أخلاقيات المجتمع وأعرافه. تؤكد العبارة القديمة هذه السلطة بالقول: "يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره". ولكن ماذا عن الروائي في الزمن الحديث؟ فهل ثمة ما يجوز له ولا يجوز لغيره؟. بالعودة للمرويات القديمة، ترجيحٌ ما، بأن أبا الطيب المتنبي هو أول من قال: "يحق للمتنبي ما لا يحق لغيره"، تأكيدا لسلطته ومكانته الشعرية التي يراها فوق النقد وفوق اللغة التي أمسك بناصيتها طوال عمره الشعري المديد. فما يحق لهذا الشاعر العباسي في الخروج على العرف اللغوي لا يحق لغيره، هذا على مستوى الشكل، أما على مستوى المضمون، فما يجوز لأبي نواس، مثلاً، لا يجوز لغيره، وهو صاحب قصائد الخمريات الشهيرة والتي لم يكن فيها فقط شاعرا وإنما أيضا ساردا وروائيا يقص معايشاته شعرا عن تجربة تماهى فيها حد التوحد. فهل يكون التوحد في الحدث والتجربة، شرط جوازٍ للشاعر دون غيره، ليعود لنا بنص أدبي مستلهم من تلك التجربة الواقعية. وفي مقابل عبارة: "يحق للشاعر ما لا يحق لغيره"، تأتي مقولة" أعذب الشعر، أكذبه". وكأنها تبرير ومخرج يخلص الشاعر من ورطة افتضاح أسرار تجربته "المُحرمة" في مجتمع محافظ مُثقلٍ بالأعراف والتقاليد التابوهية. وكأن على الشاعر أن كل ما باح بتفصيل من تجربته الإنسانية، توشح بالكذب والخيال لدرء شبهة تورطه بالجرم الاجتماعي الذي لن يجد مبررا لوجوده اللغوي غير شرعية الشعر صاحب الحصانة الأدبية التي تذكرنا دوما بعبارة "يجوز للشاعر"، خاصة إذا كان هذا الشاعر من الاقتدار الفني، بأن يشغل المتلقي عن أي تفكير "واقعي" يعكر صفو قراءة النص الأدبي المتخيل. الرواية التي أسماها علي حرب، مبكرا "ديوان العرب الحديث" تعيد إلينا طرح ذات السؤال خصوصا وأن هذا الفن الأدبي يحتاج إلى بحث موسع في تفاصيل الحبكة الروائية؛ يتطلب من الكاتب أن يذهب إلى ما هو أبعد من السماع أو التذكر، نحو المعايشة الصادقة مع الحدث لتمثيله فنيا، فالكاتب بخلاف الفنان التشكيلي، لا يجلس في مرسم مزين باللوحات ويرسم من الخيال الحر. بل هو باحث بالضرورة، في سيكولوجيا شخوصه وفي طرائق تفكيرهم وأمكنتهم وعوالمهم الخفية والسُفلية، قد يذهب إليهم أو يأتون إليه، كما في أدب السيرة الذي يصور مقاطع هامة من حياة الكاتب هذا أو ذاك. فهل يجوز للروائي ما لا يجوز لغيره، بالتأكيد أجل، ف "أعذب السرد أشده التحاما بالواقع" حد التوحد. هكذا أدهشنا محمد شكري في "الخبز الحافي" وحتى غابرييل ماركيز، رغم واقعيته السحرية الفنتازية إلا أنه دوما ما يذكر في حواراته بتأثير معايشاته الحياتية والسياسية على أعماله الروائية. فكاتب أدب الرواية أو سيناريو الفيلم الروائي، يدرك تماما أن الكتابة الروائية تستدعي الاقتراب من عالم النص قيد الكتابة، فالشخوص الحقيقيون هم دائما الملهمون الأصيلون للنص، ثم يأتي بعد ذلك كل شيء. لهذا، إذا علينا أن نتفق أخيرا، أن ما يجوز للشاعر.. يجوز أيضا للروائي.. بل وربما لغيره.
مشاركة :