عَكَس انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة في عام 2016 موقفاً متمرداً قوياً ترافق مع تداعيات كبرى حول العالم، لا سيما وسط الحلفاء الأوروبيين. خلال السنوات الأربع اللاحقة، تدهورت العلاقات الأوروبية الأطلسية بدرجة غير مسبوقة حين دعم الرئيس الأميركي خطة "بريكست"، وتخلّى عن اتفاق باريس للمناخ، ووضع الاتحاد الأوروبي في مصاف "الأعداء"، فارتعب الأوروبيون حين شاهدوا كيف نسف ترامب الاتفاق الإيراني واستخف بشركائه في حلف الناتو وشلّ عمل منظمة التجارة العالمية وتخلى عن منظمة الصحة العالمية رغم تفشي وباء عالمي. في ظل هذا الوضع، يسهل أن نتفهم الراحة التي شعر بها القادة الأوروبيون بعد فوز جو بايدن بالرئاسة، ستقدّم الإدارة الأميركية التي لا تميل إلى إضعاف أو تدمير نسيج التعددية العالمية استراحة ضرورية لإعادة إحياء الالتزامات المتبادلة وضمان احترامها. لكن قد يكون الاحتفال بهذه النتيجة مبكراً لأن المشاكل السياسية التي سبّبت شرخاً واسعاً بين أوروبا والولايات المتحدة في عهد ترامب لن تختفي بين ليلة وضحاها، ولن يتلاشى أيضاً الغضب الذي افتعله الرئيس الأميركي لدى البعض ضد السلطات الحاكمة. مع ذلك، بدأ فوز بايدن يدفع بلداناً أخرى في أوروبا إلى إعادة النظر بوضعها. الثقة عامل أساسي في أي شراكة، لكنها انهارت بكل وضوح خلال عهد ترامب، وبعدما كانت مؤتمرات ميونخ الأمنية السابقة تعبّر عن قلقها من العدائية الروسية، طغت مخاوف من تخلّي الولايات المتحدة عن التزاماتها في السنة الماضية. تلك المخاوف أكدت على ضرورة أن تزيد أوروبا اتكالها على نفسها، أقلّه في مجالات الأمن والدفاع، من جهة، سيكون هذا الرد ضرورياً غداة المطالب الأميركية القديمة بتقاسم أعباء إضافية معها، ومن جهة أخرى، يعكس هذا الموقف اعترافاً بضرورة تطوير القدرات التي تضمن توسيع استقلالية أوروبا الاستراتيجية في وجه التصرفات الأميركية غير المتوقعة. أصبحت هذه المسألة جزءاً من أسباب توتر العلاقات بين فرنسا وألمانيا منذ الآن (لا يتفق البلدان أصلاً على درجة اتكال أوروبا على الولايات المتحدة في المرحلة المقبلة)، ومن المتوقع أن تتحول إلى نقطة خلاف مع الأوساط الدفاعية الأميركية. تتعلق نقطة خلافية أخرى بالعلاقات مع الصين، إذ يريد الاتحاد الأوروبي أن يُرسّخ مكانته الخاصة ويدافع عن رؤيته بشأن علاقته مع بكين التي يعتبرها شريكة في التفاوض ومنافِسة اقتصادية وخصماً استراتيجياً، مما يتعارض مع السياسة الأميركية في عهد ترامب. لا يريد الاتحاد الأوروبي أن يجد نفسه مُنْهَكاً بين خصمَين أساسيَين في عالمٍ ثنائي تطغى عليه الصين والولايات المتحدة، وهذا ما يفسّر الإصرار على توسيع "السيادة الأوروبية": إنه المبدأ التوجيهي للسياسة التي يحاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تطبيقها. من الواضح إذاً أن رحيل ترامب لن يمحو الاختلافات التي سبّبت الشرخ بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في آخر أربع سنوات في مجالات التجارة والتكنولوجيا والضرائب. مع ذلك تسود مشاعر مختلفة اليوم على طرفَي الأطلسي، إذ يظن المسؤولون أن الوضع الراهن يشكّل فرصة مناسبة لإعادة اكتشاف أهمية القواسم المشتركة، وإحداث التغيير اللازم عن طريق خطط مدروسة بدل الخلافات، وتسريع مساعي إنقاذ العالم الهش، وإعادة إحياء نظام التعددية وإصلاحه. قد لا تتكرر هذه الفرصة مجدداً، فقد أصبحت الظروف الشائكة التي طبعت الحقبة السابقة جزءاً من الماضي، لم يتّضح بعد إلى أي حد تستطيع القيود السياسية والقضائية المحلية في الولايات المتحدة أن تكبح آفاق بايدن السياسية وتُضعِف قدرته على تنفيذ خططه، لكن يحتاج الطرفان في مطلق الأحوال إلى التركيز مجدداً على المستقبل بعد توحيد الصفوف وتجاوز مرحلة الخلافات. * «بات كوكس»
مشاركة :