يشكّل العقل القوي المرن النزيه دوراً قوياً في كتابة التاريخ وتثبيت نقل الأخبار والروايات، وهو يبين عن نفسه حينما تقرأ له أنه بتجرد يضرب في أعماق الاستقصاء والتروي ونشدان الدليل الصحيح والتحليل القوي المتين. ولا يكاد هذا الصنف من المؤرخين إلا أن يعدل ويترزن ويتروى، وما يبرح يستشير ويراجع ويتأكد حسب النص بسند قوي، قوي صادق أمين جدًّا. هذا النوع قليل خلال القرون، لكنّ كتاباً واحداً يغني عن مئة كتاب ممن يكتب سرداً أو يُنشأ إنشاء أو يحرر تحريراً. ولو قيل لأحد ما إن حدثاً حصل في موضوع معين لكان الناس من هذا الحدث أصنافًا: 1 - فهناك من يدونه عجولاً. 2 - وهناك من يدونه ويبالغ. 3 - وهناك من يدونه حسب ميوله. 4 - وهناك من يدونه حسب حبه للتدوين. 5 - وهناك من يدونه ليقال إنه مؤرخ. 6 - وهناك من يدونه من باب الفتنة. 7 - وهناك من يدونه ويضيف من عنده. 8 - وهناك من يدونه متردداً. 9 - وهناك من يدونه لكن بعد التثبت والتروي والسؤال وصحة نقل الخبر. فإما أن يدونه أو يتركه، لكنه حين يدونه لا يفعل إلا بعد جلب النزاهة والأمانة والإنصاف وشدة التحري، وإلا فإنه يتركه ولو اشتهر. والعالم الرباني في هذا كله لا يؤلف أو يتكلم إلا بعد سبيل طويل من التثبت وصدق وصحة السند. ولهذا فالإمام البخاري في (صحيحه) روى عن (الذهلي) روايات مع أن (الذهلي) عاداه وساهم في طرده من بلاده، لكنه روى عنه حتى مع هذا لأنه لم يلقَ ولم يرَ سبيلاً لإثبات هذا الحديث أو ذلك إلا عن طريق (الذهلي). وها هو سيبويه والكسائي لم يترك أحدهما الآخر بل كلاهما كان يعظم الآخر ويجله مع ما بينهما من اختلاف في مسائل كثيرة في (النحو). وها هو مسلم بن الحجاج في (صحيحه) يروي عمن ناصبه العداء حسداً لكنه يروي عنه ولم يمنعه هذا من الرواية؛ لأن طريقه إلى الأحاديث جاء عن طريق بعض هؤلاء. هذا هو السبيل إلى الصدق وقوة الأمانة وصلاح القصد ولا نزكي أحداً على الله سبحانه وتعالى. ويستطيع المطلع المكيث الجيد أن يطالع (الكامل) لابن الأثير الجزري وهو كتاب تاريخ وروايات وأخبار، ثم يطالع معه (السيرة الحلبية) لابن برهان الدين، ومعهما: (تاريخ دمشق) للإمام ابن عساكر، ثم ينظر عن كثب في (مروج الذهب) للمسعودي فهو يجد البون شاسعاً - رحمة الله تعالى على الجميع -. (ومروج الذهب) عبارة عن سرد ونقولات وقصص دون سند أو سبيل جيد قويم.. والذين هم يدونون التاريخ أو هم يدونون أحكام العبادات أو أحكام المعاملات، ثم يتروون جداً في ذلك، تجد أنهم يضيفون جديداً وسبقاً، ولاسيما في (المستجدات) و(النوازل) كما صنع ابن حجر في تاريخ وشرح الآثار والنصوص، وكما صنع العيني كذلك في (عمدة القاري)، وهو ما فعله ابن عابدين في (الحاشية)، ونهجه السرخسي في (المستصفى)، والزيلعي في (نصب الراية). وجملة ما هنا وهناك ما سطره ابن خلدون في (المقدمة) أو مسلم في (مقدمته)؛ ولهذا من المتأخرين (لفوم تشومكي) من وقع في الخلل الواضح حينما كتب عن اللغة بنوع من الأحادية والجرأة، كما صنع قسطنطين زريق حينما بالغ في أخطاء كثيرة في كتابه (نحن والتاريخ)، ولاسيما ص15/ و27/ و31/ و45/ و98/ و101/ و118/ الطبعة الثانية. وهو ما فعله توفيق الحكيم في كتابه (حياة محمد) انظر ط1/ص20/ 48/ 85/ 90 حتى 128/ 161. وطالع مثلاً كتاب (فقه اللغة) لويس بن عوض/ ط2/ ص9/ 46/ 50/ 76/ 78/ 79/ 91/ 115/ 203. (وتاريخ الأدب العربي) لجرجي زيدان طبعة بيروت ص3 حتى ص8، وطالع ما كتبه من 25 حتى 109. وإذا كانت قراءة التاريخ تحتاج إلى سابق دراية وعمق نظر ومعرفة تامة لحياة المؤلف ونشأته وأهدافه وعلمه بالآثار الصحيحة والضعيفة فإنها تحتاج كذلك إلى أن يحمي القارئ عقله كثيراً، ويحفظه ويعالج العاطفة لئلا تخادع العقل فتقوده إلى العور والتيهان. وانظر مثلاً ابن كثير في (البداية والنهاية) م/3 ص15 حتى 204 و م/5 من ص7 حتى 118 إلى 210. وم/6 و م/ 7 تجد هناك عجباً من صدق الرواية بسند صالح جيد بعيداً عن الخواطر وتلقي الركبان. وقالوا .. وذكروا... وحدثوا... وحدثني رجل، وقال لي من لا أتهم.. فهذه عبارات هشة بالية، لا تفوت على العاقل الخريت الجيد العمق القوي ذي البصيرة شديد الاحترام لعقله ورؤيته وأدبه وعلمه. ومثل هذا كثيراً وجاء في (كتاب الأغاني)، وجاء في (البيان والتبيان). ومثل هذا يحتاج إلى قوة نظر فأين المصدر؟ وأين التاريخ؟ وأين حقيقة الحاصل؟ وأين السند؟... إلخ نعم، هذه الكتب مصدر من مصادر الأدب، لكنها لا تكون كذلك. وهناك البديل (عيون الأخبار) و(تاريخ دمشق) و(صيد الخاطر) و(تاريخ الأدب العربي) للرافعي و(روايات باكثير) و(سير أعلام النبلاء) و(شمس الإسلام تسطع على الغرب) و(معجزة فوق الرمال) و(جامع الأصول) لابن الأثير. أليس هذا حسناً؟.. جرّب وتأمل.
مشاركة :