محمد الأسعد في أي حديث أو مقالة أو بحث، أياً كان الموضوع والمرمى والنتائج التي يصل إليها، تتساءل قلة من الناس عن المنهج الذي يتبعه صاحب الحديث أو المقالة، أما أكثر الناس فينصرف انتباههم عادة إلى ما ذهب إليه وأطلقه على عواهنه. وهذا هو ما حدث حين تداول الناس حديثاً أطلق فيه الروائي يوسف زيدان مؤخراً سلسلة من الاتهامات موجهة إلى شخصية القائد البارز إبان حروب الفرنجة، صلاح الدين الأيوبي، بلغت من البذاءة حداً يصعب معه نسبتها إلى إنسان عاقل، ناهيك عن كاتب وروائي ومؤرخ، كما يشاع عن صاحب هذه الاتهامات. فلم يسأله من أجرى الحديث معه عن منهجه وعن مراجعه ومدى صحة ما استند إليه من مرويات أو كذبها، تلك التي جرته إلى القول إن «صلاح الدين الأيوبي من أحقر الشخصيات في التاريخ الإنساني». بل وبدا صاحب الأسئلة أقل الناس معرفة بالشخصية التي انصبت عليها بذاءات زيدان وطالت جملة من الشخصيات التاريخية، فأظهر بسلوكه وكأن زيدان هذا امتلك الكلمة الفصل، وقطع قول كل خطيب. المنهج هو الأساس، أي طريقة النظر والمحاكمة، وهو الذي يدلنا على قيمة المذهب والغاية. ولا نجد لدى «جهيزة» هذا العصر منهجاً ولا محاكمة، بل نجد تكراراً لبعض روايات متداولة، أثبت باحثون معاصرون كذبها كما سنرى بعد قليل، ونجد تعليلاتٍ لصراعات سياسية على أساس مذهبي، تماماً كما يحدث الآن نتيجة قصر نظر وخضوع لتضليل مقصود، أو أساس شخصي، من قبيل أن صلاح الدين «خان» حاكمَين أقسم لهما بالولاء.. إلخ. هذا ليس نهجاً يعتدّ به، بل هو أشبه بتداول الإشاعات بلا تدبر ولا تفكير. ولأن الصحة هي حجر الزاوية في أي رواية تبني تاريخاً، أي كونها خبراً عن شخصية أو حدث أو ظاهرة، يكتسب الفصل في قضية الإخبار أهمية أولى، سواء كان الخبر عن شخص أو حدث أو ظاهرة. وتاريخياً أسباب الكذب في الأخبار، كما فصّلها ذلك العبقري ابن خلدون قبل ستمئة عام، متعددة؛ فهو قد يكون نتاج تشيع للآراء والمذاهب، فيجعل النفس تقبل ما يوافق هواها من أخبار، وقد يكون نتاج الثقة بالناقلين الذين قد يكونون على قدر من النزاهة والأمانة، إلا أن مستواهم المعرفي المتدني قد يخونهم حين يخبرون أو ينقلون خبراً، وقد يكون نتاج تقرب الناس لأصحاب السطوة والنفوذ. ولكن الأكثر أهمية من كل هذه الأسباب، هو ما سمّاه ابن خلدون بتعبيره «الجهل بطبائع الأحوال والعمران»، وما يعرف في العصور الحديثة بالجهل بالطبائع الحقيقية والواقعية للصراعات؛ الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. على سبيل المثال؛ حين يطلق زيدان على التنافر والاقتراب من التصادم بين نور الدين زنكي وصلاح الدين صفة «الخيانة»، يُظهر عدم معرفة بالمراجع الوفيرة التي اعتمد عليها المؤرخ البريطاني البارز ستيف رنسمن في مجلداته الثلاثة «تاريخ الحروب الصليبية». يكتب هذا المؤرخ أن علاقات الاثنين وصلت إلى نقطة القطيعة في يناير/كانون الثاني 1171، حين كتب نور الدين إلى صلاح الدين في القاهرة أن يوقف الدعاء للخليفة الفاطمي من على المنابر، والدعاء بدلاً من ذلك للخليفة العباسي، ورفض صلاح الدين الامتثال، فهدد زنكي بالمجيء إلى القاهرة بنفسه، فبدأ صلاح الدين يعد العدة للتغيير بحذر، ولم يبادر. وفي ذات جمعة، والخليفة الفاطمي الشاب «العاضد» على فراش الموت، وفد من الموصل شيخ دعا في المسجد الكبير لخليفة بغداد، وساد بعدها هذا الدعاء مساجد القاهرة، ومنع صلاح الدين الخدم من إعلامه بما جرى، قائلاً لهم «هو يحتضر، دعوه يتوفى بسلام». وبعد وفاة العاضد، أعلن صلاح الدين نفسه سلطاناً، بعد أن كان تولى منصب الوزير للعاضد طوال سنتين. ثم وفر لأفراد الأسرة الفاطمية حياة رخية، ولكن بعيداً عن أية صلة بالعالم الخارجي. مثال آخر، على عدم معرفة طبيعة الصراع الذي دار حول مصر بين الفرنجة في فلسطين وبين الحملات الثلاث التي أرسلها نور الدين بقيادة شيركوه وابن أخيه صلاح الدين إلى مصر. هذا الصراع جرى في وقت كان يستولي فيه مغامرون من أمثال «ابن زريق»، و«شاور»، و«ضرغام».. على مقاليد الحكم في مصر، واحداً بعد الآخر، ولم يعد للخلافة الفاطمية إلا الاسم. هؤلاء المغامرون تحالفوا مع الفرنجة مرات، إلى أن تم قتل آخرهم، شاور، بأمر من الخليفة الفاطمي الشاب، بعد أن استتب الأمر لشيركوه وابن أخيه. وتلخص رؤية شيركوه الملقب بأسد الدين استراتيجية هذا الصراع بعيداً عن الجهل بطبيعة محركاته التاريخية. فهذا القائد كما يقول رنسمن، «هو الوحيد الذي رأى بوضوح أكثر من أي مسلم، أن فتح مصر بموقعها الاستراتيجي ومواردها غير المحدودة، له أولوية ضرورية لاستعادة فلسطين.. ومن أجل هذه الغاية عمل بلا توقف حتى آخر أيامه».* * * إذا أتينا إلى المزاعم التي رددها زيدان عن حرق صلاح الدين لمكتبة القصر الكبير «بدعوى مواجهة الفكر الفاطمي» كما قال، نكتشف حسب أبحاث معاصرة لباحثين من جنسيات مختلفة، أنها واحدة من الأساطير المكرورة في مقالات تتناول الانتقال من الحكم الفاطمي إلى الحكم الأيوبي (1169-1170). المصادر القروسطية تقدم رواية مختلفة تماماً، وتتحدث عن كتب تم بيعها وأخرى تم توزيعها أو نقلها إلى دمشق، لا استئصالها ومنع تداولها. وأبرز وأحدث الدراسات التي جمعت روايات عربية قروسطية عن المكتبات الفاطمية ودققت فيها، دراسة للباحثة فوزية بورا منشورة باللغة الإنجليزية في مجلة الجمعية الآسيوية الملكية البريطانية (يوليو/تموز 2014)، وأوردت هذه الدراسة المزيد من الأدلة على بقاء راسخ وقوي لأعمال المرحلة الفاطمية الفكرية ضمن أعمال الكتاب اللاحقين، وهذا دليل على أنها ظلت موجودة بعد العصر الفاطمي، وأنها حفظت جيداً. تقول الباحثة: إن أسطورة استئصال الكتب الفاطمية استمر تكرارها على رغم الشواهد الدالة على العكس في مختلف الدراسات التي عالجت الموضوع مباشرة، أو بشكل غير مباشر في سياق تاريخ الفاطميين أو تاريخ المعارف القروسطية بعامة. من ذلك دراسات بول ووكر (2002)، ومايكل بريت (1982)، وأيمن فؤاد سعيد (1983)، وكونراد هيرشلر (2012). وبالعودة إلى المصادر العربية نجد، على سبيل المثال لا الحصر، أن عماد الدين وابن خلدون ذكرا أن الكثير من هذه الكتب تم بيعها، ويذكر أبو شامة، أحد شهود العيان، أن القاضي الفاضل الفاطمي والذي جعله صلاح الدين وزيراً له، أخذ قدر ما استطاع من هذه الكتب، وأن صلاح الدين لم يبق لنفسه شيئاً منها، فباع ووهب الكثير منها. أما ابن الأثير فيذكر أن الكتب كلها تم بيعها. وختاماً، لعل رواية ابن الفرات عن مصير الكتب الفاطمية تخاطب العقل أكثر مما تخاطبه الأساطير. يقول ابن الفرات إن جزءاً منها حملته 8 جمال إلى دمشق، وبيع بعضها، ووهب بعضها لمن أبدى اهتماماً بها. لقد ابتكر ابن خلدون علماً جديداً هو علم العمران، أو الحضارة بمصطلح هذه الأيام، حين انطلق من تحقيق الأخبار. كان هذا قبل ستمئة عام، ويبدو أننا ما زلنا بحاجة إلى نقطة انطلاق بسيطة وبديهية مثل هذه في مطلع القرن الحادي والعشرين؛ أن نعرف، مجرد أن نعرف، أسباب الكذب والتلفيق وإطلاق الكلام على عواهنه.
مشاركة :