د. محمد سليم شوشة يكتب: منتصف أغسطس صحراء الحياة وقيظها

  • 11/28/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

في رواية "منتصف أغسطس" للكاتبة آمال الشاذلي الصادرة عن الحضارة للنشر 2018 يصبح القارئ أمام عالم كابوسي تهيمن عليه الآلام والقسوة التي نسجتها الكاتبة بشكل كبير من الديناميكية والحركة والتشويق، شخصيات كلها تلاقي مصائر كابوسية وتنتهي نهايات مغايرة تماما لما تخطط له أو تحلم به. حياة تبلغ قمة قسوتها في هذه اللوحة التي تقدمها الرواية وترسم عبرها عالمها، فلا فارق بين حياة فرج النحاس المستغل وبين حياة سيف الذي قتله ابنه طارق، الذي هو بدوره ضحية لأمه، وهكذا، في نوع من الظلم الدائري الذي يتجول دون قيود أو سدود. ولعل القيمة الدلالية للعنوان بوصفة مدخلا مهما للقراءة تتركز حول هذا القيظ والحر الذي ليست هو في الحقيقة قيظ "منتصف أغسطس" بل هو قيظ الحياة كلها التي انسحب قيظ منتصف أغسطس عليها كلها، ولهذا ربما جاء هذا العنوان على قدر كبير من التوفيق في إنتاج معنى يتناغم مع متن الرواية وأحداثها أو عوالمها وشخصياتها البائسة التي تسبح في حر الحياة ومتاهتها.في الرواية ثمة عناية كبيرة بالتفاصيل والأشياء ووصف المكان بدرجة كبيرة من الإطالة التي تمنح هذه الأماكن ملامحها أو طبيعتها، ومثل هذا ما نراه في وصف مساكن المغتربين في ليبيا في حقبة الحصار الاقتصادي بعد لوكيربي وبسبب النظام العقيد الذي قاطع العالم.فالرواية تطرح نموذجين متناقضين للمكان تقدمهما بدرجة كبيرة من البلاغة في الوصف حيث تتشكل ملامح المكان النفسية وقسوته إن جاز التعبير عبر علامات المكان وأشيائه ومفرداته، ففي مقابل مساكن المغتربين في ليبيا بشظفها وقسوتها هناك مكان نقيض هو مساكن المغتربين كذلك في البحرين، للتشكل حال من التناقض والمباينة في الرواية، مقابلة بين هشام الطبيب النصاب الظالم لزميلته، وفريدة الطبيبة الضحية التي نصب لها هشام فخاخه ليقع هو الآخر في فخاخ قدرية أشد قسوة. ولا يكون هذا بمثابة انتقام لفريدة من ظالمها وفق طرح ساذج بقدر ما هو نوع من القسوة العامة والطاغية من الحياة على كل الشخصيات، فهي إن حنّت عليهم أو لانت لهم قليلا لا تلبث طويلا حتى تعاود الظلم وإظهار ما تخفي لهم من الفجائع والشدة، لنكون في النهاية أمام تشكيل حياتي مفعم بالحركة والتبدل الدائم بين الحلو والمر وإن طغى الأخير وهيمن في النهاية لتكون الحياة كلها مجرد فخ كبير منصوب للجميع.تقارب الرواية عالما غامضا من الجرائم الكثيرة التي تتكون وتنطلق لأهون الأسباب قتل واغتصاب ونصب وسرقة أموال وتجارة في الأعضاء والسلاح وغيرها من الجرائم التي تبدو حركتها تحت غلالة اجتماعية رقيقة تجعلها كامنة أو مختفية عن الأنظار، بينما ما يدور على السطح من مظاهر الصخب العادي من الطعام والجنس والتزين والملابس كلها من الأشياء التي تخفي هذه الجرائم وتطمرها.والرواية حين تطرح كل هذه الحالات والحوادث فإنما تعمد إلى قدر كبير من السرعة والتكثيف ويغيب عنها الترهل تماما، فثمة اقتصاد سردي شديد وإحكام في البنية السردية يجعل جسد الرواية محملا بالكثير من الحكايات الرئيسة أو الفرعية، الحكايات الأصلية التي يتم مقاربتها بتركيز وتفصيل وأخرى تمر عليها مرورا عابرا لكنه يطرح الجريمة كاملة والأحداث ناصعة تسهم في تشكيل اللوحة الكبرى لحياة في غاية القسوة على الجميع تقريبا دون تمييز.تحدث هذه الجرائم دائما في الظل أو الكواليس المعتمة للحياة، ولهذا فهي دائما ما تقترن بغياب الحقيقة أو المعلومات الدقيقة عن المساحة الأخرى المقابلة من الحياة وهي مساحة النور والحياة الطبيعية، فالرواية توحي دائما وتلمّح لمسألة غياب الحقيقة عن بقية المجتمع في كل هذه الجرائم، وهو ما حدث في موضعين من الرواية، الأول في في حادث مقتل سيف على يد طارق حين بدأت الإشاعات والاختراعات الخيالية إن جاز التعبير من الناس ليفسروا بها الحادث وقد كان أغلبها بعيدا تماما عن الحقيقة، فكأننا أمام أساطير جديدة تترسخ في عقول الناس والحقائق مازالت غائبة، والموضع الثاني في حادث الاغتصاب الذي عاينه طارق في محبسه وعجزه واعتداء الحارس أو التمرجي على الأطفال واغتصابهم، حيث بقيت كذلك الحقيقة غامضة وغريبة، وهنا تبدو الرواية كأنها تلمح إلى كون هذا الواقع الكابوسي سيمتد مادامت الحقائق مغلوطة وغائبة على الدوام هكذا، فالأمل يبدو مقترنا بمعرفة الحقيقة ووضوح الصورة لدى بقية المجتمع عن هذه الجرائم، ولا أمل غير هذا، بالمعرفة والوضوح وأن يصارح المجتمع نفسه علّ هذا القيظ يخف أو يتبدل ويزول. الرواية ترسم شخصيات ذات ملامح نفسية على قدر كبير من التشوه الممتد أو الموروث أو المنتقل معها من مرحلة حياتية إلى أخرى كأن العنف والتشوه موجات ممتدة في قاع المجتمع. وتبدو الحياة في لوحة هذه الرواية أقرب لحياة الغاب التي يهيمن عليها القنص والفتك والظلم بينما الإطار الشكلي من التنظيم والحضارة وشكل الدولة هو الشكل المظهري الذي لا يصمد أمام هذا العنف الكامن في طبيعة البشر وعمقهم.الرواية كذلك تتشكل وفق سرد مشهدي سينمائي على قدر كبير من التوفيق والبراعة في استثمار البدايات والنقلات والقطع أو التوقف وعملية المزج والزمن المتوازي وغيرها من التقنيات السينمائية التي تجعل الرواية على قدر كبير من التشويق وأحيانا تبدو بعض المشاهد على قدر من الشاعرية وهذا ما نجده مثلا في مشهد تيه فرج النحاس في الصحراء بعد قتل يسيرية واغتصاب فريدة ومحاولة قتلها، وصورته مع الأرنب الذي يتحول فروه الناعم إلى شوك أو الكلاب التي تحيط به بعد ذلك من كل جانب، فيحدث القطع على لحظة فيها إيحاء بانتصار الكلاب دون التصريح بما فعلت مع فرج وكأن الخطاب السردي هنا يحاول أن يبدو رءوفا ورحيما مشفقا على القارئ من وصف هذا المصير ويترك له أن يتخيله هو في لمحة فنية على قدر عال من الذكاء والبراعة. والحقيقة أن الرواية في غالبتها وإن اختلف القارئ مع بعض محتوياتها أو طرحها وهذا أمر طبيعي تتشكل وفق هذه التقنيات المشهدية والسينمائية بطاقات تشويقية كبيرة جدا تجعلها قادرة على جذب القارئ والاستحواذ عليه من البداية حتى النهاية.

مشاركة :