أكاد لا أصدق حجم التغيير الهائل الذي شهدته صناعة الصحافة منذ أن بدأت العمل بها في منتصف الثمانينات وحتى اليوم، فقد كانت أول وظيفة لي بعد تخرجي من الجامعة في مجال التوزيع والاشتراكات، وأذكر جيداً كيف كنا نقضي ساعات طويلة نحدد فيها يدوياً الكميات المطلوب طباعتها لكل صحيفة ومجلة وذلك بناء على عوامل عديدة منها أهمية الحدث وحسابات المباع والمرتجع للأيام الماضية، بل وحتى مدى جاذبية وأهمية صورة الغلاف لبعض المجلات. هذه كانت عملية شاقة وغير دقيقة أحياناً، إلى أن أصبح الكمبيوتر يتولى القيام بها بأقل تدخل بشري ممكن، محدداً الكميات المناسبة لكل نقطة بيع بناء على مرتجعاتها السابقة. تدخُّل الكمبيوتر في صناعة توزيع المطبوعات كان تغيراً جذرياً هاماً نتج عنه الكثير من التوفير في الوقت والجهد والتكلفة، إضافة إلى تخفيض المرتجع من الصحف والمجلات بدرجة ملحوظة. مجال التوزيع في المؤسسات الصحفية رغم أهميته الكبيرة، إلا أنه كان دائماً يأتي في مرحلة تالية لمجال الإعلان، وهذا أمر طبيعي لأن الإعلان هو المصدر الرئيس للدخل، بل إنه يمثل في بعض المطبوعات من 75- 90% مقابل 10- 25% بحد أقصى للتوزيع. الحقيقة أني لم أكن طوال سنوات عملي في التوزيع أتخيل ولا حتى في الأحلام أن تتغير معادلة الإعلان والتوزيع هذه وأن يصبح دخل التوزيع يوماً أعلى من دخل الإعلانات. حتى عندما بدأ اهتمامي بالإعلام الجديد في منتصف التسعينات، وتحذيري حينها في عدد من المقالات بأن الإعلام الإلكتروني بات يشكل تهديداً كبيراً للصحافة المطبوعة التي رأيت -ولا زلت أرى- أنها لا محالة في طريقها للانقراض.. ما لم أكن أتوقعه هو رؤية دخل التوزيع وقد أزاح الإعلان «الابن المدلل» من قائمة الأهمية الأولى لدى المؤسسات الصحفية.. هذا ما حدث فعلاً وأعلنت عنه مؤخراً (المنظمة العالمية للصحف وناشري الأخبار) التي ذكرت أن الدخل العالمي للصحف من التوزيع خلال عام 2014 فاق ولأول مرة خلال هذا القرن دخلها من الإعلان، حيث بلغ دخل التوزيع (مطبوع واشتراكات رقمية) 92 مليار دولار، مقابل 87 مليار دولار للإعلان (مطبوع ورقمي). هذا الخبر يعتبر في رأيي تحولاً تاريخياً في صناعة الصحافة يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك بأن الصحافة المطبوعة في طريقها للانقراض، وأن المستقبل هو للإعلام الرقمي بكافة صوره وأشكاله. موت الصحافة المطبوعة لا يعني طبعاً موت المؤسسات الصحفية المؤمنة بالتغيير على غرار نيويورك تايمز التي أعلنت هذا الشهر بأن عدد المشتركين في نسختها الرقمية تجاوز المليون مشترك.. ولكن الموت سيكون بالتأكيد لتلك الصحف والمؤسسات الصحفية الرافضة للتغيير أو غير القادرة عليه.
مشاركة :