القضاء.. محاكم النفوس المتسامحة في المساجد والشوارع!

  • 8/21/2015
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

كثيراً ما نسمع قديماً عبارة "ترى أبوقفك شرع" أو "وعدنا المحكمة" عند حدوث مشادة كلامية او خلاف بين اثنين، وذلك يعني التخاصم لدى القاضي، فيكون الفاصل في الخصومة هو مثول المتخاصمين أمام القاضي ليعيد الحق إلى صاحبه، وقد كان وجود القضاة أمر فرضته الحاجة خصوصاً في البلدان الكبيرة وأما البلدان الصغيرة فقد كان المتخاصمون يشدون الرحال إلى أقرب بلدة يوجد بها قاض ذائع الصيت ومعروف بفقهه وورعه ودرايته فيتحاكمان لديه ويرضيا بحكمه، وعرف القضاء منذ القدم وعبر تاريخنا الإسلامي، حيث يكتسب القضاء أهمية كبيرة في حياة الناس ما يضمن لهم حقوقهم ويحفظها خصوصاً انه كان قضاءً نزيها أساسه العدل. ومرّ القضاء في بلادنا بعدة محطات قبل وبعد تأسيسها فقد كان القضاء بسيطاً قبل أن يصدر له تنظيم خاص بعد تولى جلالة الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - مقاليد الحكم في البلاد وتوحيدها ويكتسب الشرعية ويكون له مرجعاً يتولى الإشراف عليه وذلك بإنشاء وزارة العدل فيما بعد التي تولت افتتاح المحاكم وتعيين القضاة والإشراف على شؤونهم ومتابعة أدائهم. القضاء قديماً كان القضاء حتى عهد ليس بعيد في شبه الجزيرة العربية يتمثل في قضاة أو ما كان يسمى في البادية - ب "العارفة" يتم تعيينهم أو "اختيارهم" عن طريق الأمراء وأصحاب الشأن في المجتمع أو القبيلة مثل الأعيان والشيوخ ورجال الدين، وذلك من أجل الفصل فيما يعرض عليهم من نزاعات وقضايا تحدث بين الأفراد أو المجموعات أو القبائل، وكان يلزم أن يكون القُضاة على درجة عالية من الأخلاق والاستقامة وبعد النظر ومن أهل المعرفة والاطلاع بالعلوم الشرعية وفقه المعاملات، وذلك من أجل فرض نوع من القناعة بين أفراد المجتمع للرضا بتلك الأحكام بعد صدورها لإكسابها القوة التنفيذية اللازمة، وغالباً ما يكون للقاضي "حسب درجته أو مرتبته العلمية ومركزه الاجتماعي" الكلمة الأولى والأخيرة للفصل في موضوع النزاع، وفي حالة عدم اقتناع الأطراف بالحكم الصادر، فإنه يتم اللجوء إلى قاضٍ ثان بمرتبة أعلى علمياً أو اجتماعيا كنوع من أنواع الاستئناف، وإذا أشكل على القاضي حل القضية المطروحة أمامه، فإنه يحيل الخصوم على قاضٍ ثانٍ للفصل في الدعوى حسب الأحوال، ولم يكن هناك ما يعرف في الوقت الحالي بالضبوط أو السجلات أو الدفاتر أو الصكوك "إلا ما ندر". مهام متعددة من المهام التي كان يقوم بها القاضي في بلدته هي الفصل بين الناس في قضاياهم من البيوع والمعاملات والأحوال وفض منازعاتهم واستيفاء حقوقهم الشخصية وكذلك الكتابة بينهم في عقاراتهم ومدايناتهم وأوقافهم ووصاياهم وغير ذلك والإشراف على أوقافهم واليتامى والقاصرين منهم وإقامة الحدود على مرتكبي الجرائم السرقة بأنواعها، إضافة إلى إمامته المسجد الجامع في الصلوات الخمس والخطابة بهم في الجمع والأعياد، ولا يقتصر عمله على ذلك فقط بل يتعداه إلى تدريس طلبة البلدة مبادئ التفسير والحديث والفقه وأصوله وغيرها من العلوم والمعارف المتداولة بينهم في عصرهم إضافة إلى عقد الأنكحة لهم والقيام بأعمال الحسبة. وكان القاضي ينظر في الأوقاف وشؤونها ويعين أئمة المساجد ومؤذنيها، ويرتب من يقوم بتعليم القرآن الكريم في حلقات المساجد أو في الكتاتيب ويتفقد أحوال الناس الخاصة والعامة فيساعد المحتاجين ويرفق بالضعفاء والمساكين وينظر في ولاية الأيتام والقصر ويعمل على إصلاح ذات البين ويقيم الحدود التي تصدر بحق الجناة ويردع المفسدين ويقوم بتدريس طلبة العلم ويجلس لهم في بيته أو الجامع وتنوير بصائرهم بمختلف العلوم والفنون النافعة لهم في دينهم ودنياهم، كما يقوم بمهمة التدريس علماء أجلاء مشهود لهم بالفضل والمعرفة وسلامة العقيدة ممن لم يتول القضاء منهم، وكان القاضي فيما مضى يقوم بمهام متعددة إلى جانب ولايته للقضاء فهو المفتي والمرشد والمدرس وهو إمام الجامع وخطيب الجمعة يبين للناس الحلال والحرام ويفصل لهم أحكام العبادات والمعاملات ويرشدهم إلى محاسن الآداب ومكارم الأخلاق. مكان العمل لم يكن القضاة قبل توحيد المملكة يعرفون مكاناً مستقلاً لهم للجلوس فيه للقضاء كما هو الحال عليه الآن بعد إنشاء مقرات للمحاكم الشرعية بل كان القاضي يحكم بين المتخاصمين في أي مكان يوجد فيه مثل المسجد الجامع الذي يتولى إمامته أو في الطريق إلى بيته إذا اعترضه المتخاصمين حيث يقضي بينهما سريعاً أو ربما تولى النظر في القضايا أثناء جلوسه بين الناس في مجالسهم أو في السوق وربما يقصده المتخاصمين في بيته فيفتح بابه ويقضي بينهما أمام الباب أو في داخل البيت إن كانت القضية فيها ملابسات وتستدعي مزيداً من النظر فيها، وكان القضاة ينظمون حديث الناس في أسواق البيع والشراء، فيجلسون في مجلس معين ومعروف بالسوق يعظون ويفتون ويفصلون في القضايا والمشكلات التي تعترض الناس في أسواقهم، علاوة على استقبالهم لأي أمر يتعلق بشؤون عبادتهم ومعاملاتهم وأحوالهم الشخصية من زواج وطلاق، ويقصدهم البعيد والقريب لكل أمر شرعي يشكل عليهم وكانوا يحرصون على تنظيم الدروس لطالبي العلم في حلقات المساجد وغيرها. قضاة مشهورون اشتهر كثير من القضاة في بلادنا منذ القدم وبفترات طويلة قبل توحيد المملكة وبعدها ونبغ عدد منهم في القضاء بين الناس وهم كثر ومن الصعب حصرهم وقد أورد عدد من المؤلفين ذكر العشرات منهم كمؤلف كتاب علماء نجد خلال ثمانية قرون للشيخ عبدالله بن عبدالرحمن بن صالح آل بسام الذي ذكر ترجمة مئة وثلاثة عشر منهم، ومؤلف كتاب زهر الخمايل في تراجم علماء حائل حيث ذكر مئة واثين من العلماء والقضاة وغيرهم كثير ممن دون أسماءهم وآثارهم عدد من المؤرخين والمؤلفين. رواتب كان القضاة في السابق تخصص لهم أوقاف من الحبوب والثمار والتمر قوت سنة من بيت المال وذلك مقابل ما يقومون به من أعمال جليلة لمجتمعهم التي أسلفنا ذكرها، وكذلك طالب العلم فقد كان يعطيه القاضي ما ينوبه من بيت المال من نفقة ليتفرغ لطلب العلم الشرعي، وبعد توحيد المملكة تغير الحال وصار كل قاض يصرف له مرتب شهري بعد تنظيم أعمال القضاء، بل وتم تخصيص مبنى كمحكمة يدير القاضي عمله بها وزود بالكتاب والموظفين من أجل تيسير العمل وخدمة للمراجعين وخصص لذلك أوقات دوام في أيام الأسبوع كباقي الدوائر الحكومية، وصار متفرغاً للقضاء بعد أن كبرت المدن وزادت تعقيدات الحياة التي أفرزت كثيرا من القضايا والاختلافات والمنازعات التي تستدعي نظره فيها وقد استدعت الحاجة في المدن الكبرى إلى تعيين عدة قضاة في المحكمة الواحدة حيث يتم تعيين أحدهم رئيساً لهم، وتخفيفاً على القضاة فقد تم استحداث كتابات عدل تتولى أمور إثبات الملكيات العامة وتوثق البيوع للعقارات وتصدر الوكالات بأنواعها. بداية المحاكم بعد توحيد المملكة على يد الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - أصدر تعليماته إبان إعلانه التشكيلات المؤقتة لرئاسة القضاء في عام 1344ه وعرفت هذه التعليمات باسم "مواد إصلاحية مؤقتة للمحاكم الشرعية" وفي عام 1345ه أمر جلالته ببقاء العمل بالمذهب الحنفي "القانون العثماني" بالحجاز، قائلاً: "إن أحكام القانون العثماني ما زالت جارية إلى الآن، لأننا لم نصدر إرادتنا بإلغائها، ووضع أحكام جديدة مكانها، ولذا نوافق على اقتراحكم بشأن استمرار أحكام ذلك القانون"، وفي عام 1346ه صدر نظام " أوضاع المحاكم الشرعية وتشكيلاتها" وهو أول نظام إداري للقضاء في الحجاز، وناسخ للتعليمات العثمانية. كما أكد الملك عبدالعزيز على التزام المحاكم بأحكام الشرع من دون أن تكون مقيدة بمذهب مخصوص بل تقضي على حسب ما يظهر لها من أي المذاهب كان ولا فرق بين مذهب وآخر وفي عام 1346ه صدر أمر ملكي يلزم القضاة بالحكم بمقتضى"المذهب الحنبلي" في العموم وفي حال الخروج عن المذهب فيذكر الدليل والمستند، ومع إفساح الملك عبدالعزيز - رحمه الله - النظر للقضاة لإعمال ما ترجح من الأقوال من عموم المذاهب فقد رسم - رحمه الله - قاعدة عامة للأحكام بأن تجري في العموم على وفق المفتى به من مذهب الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - وفي حال الخروج إلى قول آخر في مذهب غيره فيذكر دليله ومستنده. تطوير حرصت المملكة منذ بدء تأسيسها إلى تطوير القضاء وكانت أول مبادرة قام بها الملك عبدالعزيز أنه عين للقضاء الشيخ محمد المرزوقي وأعلن عبر الصحيفة الرسمية "جريدة أم القرى" في عددها الثالث أن الحكومة ترغب أن ترى المختصمين يختصمان أمام القضاء ليجري حكم الشرع في القضايا بغير محاباة ولا مراوغة، وبناء على ذلك أسس في 1344ه تشكيلات لدائرة رئيس القضاة في مكة المكرمة ليتولى الإشراف على القضاء والقضاة وما يصدر عنهم من أحكام، حيث وضع أربعة أسماء للوظائف كرئيس القضاة، ورئيس الكتاب، ورئيس التدقيقات الشرعية، وأعضاء، وكتاب، وخدم، وتتابعت التنظيمات والترتيبات القضائية والإجرائية حتى الوقت الحالي. وتولى رئاسة القضاء في مرحلة التأسيس بعد أمر الملك سعود بن عبدالعزيز بتوحيد القضاء مفتي الديار السعودية رئيس قضاتها الشيخ محمد آل الشيخ، الأمر الذي نتج عنه توحيد صيغ العمل القضائي وأنماطه وفق منهجية واحدة جراء اتحاد في الإجراءات والتدقيق في الأحكام في عموم المملكة، وأُسست محكمة التمييز في عام 1381ه في الرياض وافتُتح لها فرع في مكة المكرمة إضافة إلى إنشاء هيئة قضائية في عام 1390ه لتتولى الإشراف على أحكام القضاة إشرافاً عاماً ودراسة ما تحتاج إليه المحاكم من مبادئ قضائية ومسائل مشكلة واستمرت الهيئة القضائية العليا لخمسة أعوام حتى شُكّل مجلس القضاء الأعلى. إنشاء وزارة العدل وأنشئت وزارة العدل في عهد الملك فيصل بن عبدالعزيز عام 1390ه لتشرف على المحاكم وتلبي الاحتياجات المادية المالية والإدارية وكان أول وزير تولاها الشيخ محمد الحركان، وأثر إنشاء الوزارة في رعاية المتابعة وتذليل الصعوبات، والوقوف على جوانب النقص التي تظهر في واقع العمل ومعالجة ما قد يطرأ على القضاء من خلل وعوارض، واستمر تطوير الوزارة على المحاكم بضم دوائر لمحكمة التمييز التي شملت دائرة لنظر القضايا الجزئية ودائرة لنظر قضايا الأحوال الشخصية ودائرة لنظر القضايا الأخرى التي سميت بالقضايا الحقوقية، وإجازة تعدد الدوائر بقدر الحاجة على أن يرأس كل دائرة الرئيس أو أحد نوابه وضم تشكيل القضاء في المملكة محكمتين متخصصتين، هما محكمة الأحداث ومحكمة الضمان والأنكحة. وأعدت الوزارة الدراسات اللازمة لافتتاح مزيد من المحاكم المتخصصة نوعاً حسب الاحتياج كالمحاكم المرورية والتجارية والعمالية وغيرها وارتبط بالعمل القضائي دائرتان جديدتان هما كتابات العدل وبيوت المال لتعنى بالتوثيق وإسناد التوثيق إلى الجهات المختصة مع مراعاة الاعتبار الشرعي والتكامل الإجرائي وتحرير السندات والوكالات والعقود - إضافة إلى قيد الوفيات من المواطنين والحجاج والنظر في موضوع دفنهم. تطور القضاء ومع تطور القضاء أنشئت الإدارة العامة للمحاماة في عام 1423ه لتفعيل وتنفيذ نظام المحاماة، وتتولى هذه الإدارة الإشراف على المحامين وتطوير مهنة المحاماة ومراعاة المحامين لتطبيق النظام واللوائح والمشاركة في الندوات المنعقدة في هذا الخصوص، ثم أنشئ نظام المرافعات الشرعية في عام 1421ه الذي ضم (266) مادة تطرقت للأحكام العامة والاختصاص ورفع الدعوى وقيدها، وحضور الخصوم وغيابهم وإجراءات الجلسات ونظامها والدفوع والإدخال والتدخل والطلبات العارضة ووقف الخصومة وانقطاعها، وتنحي القضاة وإجراءات الإثبات وطرائق الاعتراض والاستحكام وإثبات الوفاة وحصر الورثة. وبعد عام من إقرار نظام المرافعات صدرت الموافقة السامية على نظام الإجراءات الجزائية الذي تكون من (250) مادة تضم الأحكام العامة للدعوى الجزائية وإجراءات الاستدلال وإجراءات التحقيق والمحاكمة وطرائق الاعتراض وحظر التوقيف وحظر إيذاء المقبوض عليه جسدياً أو معنوياً، وصدر في العام ذاته نظام المحاماة وعقبه نظام التسجيل العيني للعقار، وشمل برنامج التطوير القضائي إدخال أجهزة الحاسب الآلي في وزارة العدل ووضع أسس قضائية وإصدار عدد من الكتب وإنشاء مجمعات لتضم الدوائر الشرعية، وإعداد خطط تطوير وتدريب ومشاركة في المؤتمرات والوفود الرسمية، ومازالت المملكة تسعى في تطوير القضاء فيها، كما اجرى مجلس الشورى تعديلا على مواد نظامي المرافعات الشرعية والإجراءات. النظام المعدل وفي عام 1428ه صدر نظام "القضاء المعدَّل" ونظام "ديوان المظالم" المعدَّل الذي تم بموجبه إعادة تنظيم الهيكل القضائي في المملكة، حيث تم استحداث محاكم متخصصة مثل المحاكم التجارية ومحاكم الأحوال الشخصية والمحاكم العمالية وغيرها، كما تم استحداث عدة محاكم لدرجات التقاضي مثل المحاكم الابتدائية والمحاكم الاستئنافية والمحكمة العليا وذلك في عدد من المدن والمحافظات بمناطق المملكة المختلفة، بحيث أصبح عدد المحاكم في عام 1433ه الموافق 2012م يتجاوز (283) محكمة موزعة بين محاكم استئناف ومحاكم عامة ومحاكم جزائية، في حين كانت المحاكم واللجان الاستئنافية في السابق محصورة فقط في مدينتي الرياض بشكل رئيسي ومكة المكرمة، وفي منجز تاريخي أنهت وزارة العدل كافة ترتيب إطلاق  برنامج "عدل" الذي سيتم من خلاله التعامل مع جميع خدمات الوزارة إلكترونياً بحيث يتيح للمسجل لديها إصدار الوكالات وفسخها إلكترونياً بما في ذلك الهاتف الكفي، وإكمال متطلبات إفراغ الأراضي، والحصول على "برنت"- كامل عن وكالات المسجل وإفراغاته وممتلكاته، وتقديم الدعاوى أمام المحاكم وتبادل مذكراتها والحصول على مواعيد الجلسات وما دار في ضبوطها، واطلاع الوريث على أموال مورثه بعد وفاته، والإعلان عن العقارات، والإشعار بانتقال الملكية وإجراء الوكالة أو فسخها برسالة نصية على الجوال.

مشاركة :