تلقائية انزلاق الوعي عن التعقّل والتحقّق - ابراهيم البليهي

  • 11/17/2013
  • 00:00
  • 64
  • 0
  • 0
news-picture

مفتاحُ طبيعة الإنسان أنه كائنٌ تلقائيٌّ، وامتدادًا لهذه الطبيعة الأساسية فإن وعيه يتشكل تلقائيًّا أثناء طفولته بالبيئة التي ينشأ فيها وتحيط به فتقولبه.. إن حواسه تنقل إلى قابلياته المؤثرات التي تعجُّ بها البيئة الاجتماعية والطبيعية فتصوغه هذه المؤثرات ويصير بوعي مقولَب ومحدَّد النوع والاتجاه، ومشحونًا بالأحكام المسبقة ويستمر محكومًا بالتلقائية.. إن الأصل في الوعي أنه مؤطَّر بما يتبرمج به وبنمط التفكير السائد الذي اكتسبه وأنه ينساب أو يتدفق تلقائيًّا من اللاوعي ومن تنميطاته الجاهزة المستقرة وأن تلقائيته تجعله لايتحقق ومع ذلك فإنه يتوهم أنه متحقِّق من كل ما يقع تحت تقييماته وأحكامه لذلك فإن علم الظواهر يرى ضرورة وقف الانزلاقات التلقائية للوعي .. والانفصال عن الجاهز إن حركة الوعي هي حركةٌ تلقائية وهي حركة مقولَبة مرتهَنة تنساب تلقائيًّا مما تبرمَج به وبسبب ذلك فإنه ليس من طبيعة الوعي أنْ يشكَّ في صحة انسيابه ولا أنْ يتمعَّن في ذاته ولا في محتواه ولا في مصدر هذا المحتوى، كما أنه ليس من طبيعته أنْ يركِّز تلقائيا بل يحتاج مثيرًا يدفعه للتركيز فلابد من تعشيق يحركه ومقْوَد يحدد الاتجاه ويَدفع إلى نقطة التركيز أما من غير ذلك فإنه لايركز ولا يتحقق ويتعقَّل مايَعرِض له إلا إذا اضطر اضطرارًا تلقائيًّا أن يتوقف أمامه ويمعن النظر فيه، إنه يحتاج إلى تعشيق ينقله من التلقائية الطبيعية إلى الفاعلية العقلانية على شكل صدمة موقظة أو نقد حاد مزلزل ومن هنا صار العقل يوصف بأنه فاعلية نقدية أما من دون ذلك فإنه يظل مجرد مَعْبَر ينساب من خلاله مخزون اللاوعي إنه إذا لم يوقظ بصدمة يظل يتحرك تلقائيًّا بسرعة وسطحية وغفلة وانزلاق وإهمال من غير تركيز على شيء بعينه خلافًا لما يتوهمه الناس عن أنفسهم وما يقتضيه واجب التحقُّق الموضوعي الأمين من تركيز نافذ وإمعان فاحص وتقييم نزيه.. إن تلقائية الإنسان جعلت حياته مُنَمَّطَةً ومقولَبة في سلسلة من العادات الذهنية والسلوكية فليست أحكامه واستجاباته سوى انسياب تلقائي من هذه القوالب تنطلق تلقائيًّا وتَعْبُر الوعيَ من غير أي فحص أو تمحيص لذلك فإن المغامرين من أمثال هتلر يستغلون هذه القابلية الجماعية فتندفع خلفهم الجموع وتكتسح في تيارها العارم الصاخب كلَّ ما يعترض طريقها فبسبب سهولة قابلية الإثارة للجموع المقولَبة فإن أحداثًا صغيرة أو تافهة قد تستفز أمة بأكملها فالاستجابات العامة العارمة لمثل هذه الأحداث هي نموذجٌ على التدفُّق التلقائي من مخزون القوالب النمطية وقد نبَّة الفيلسوف الألماني الأكبر هيجل إلى أن الإنسان : يكون أكثر جزماً وأشد يقيناً بمقدار جهله بالشيء الذي يتحدث عنه وبسبب هذا الاستعداد التلقائي تتأجج الاندفاعات العامة الرعناء كاستجابة تلقائية عمياء.. إن الحركة التلقائية للوعي تنساب متلبِّسة غالبا بالأحكام المقولَبة المسبقة ثم إن حركة الوعي عمومًا هي حركة سائبة هائمة فهي غالبًا لاتُركِّز على شيء ولاتستقر على شيء ولا تتحقق من شيء، وإن أمورًا كبيرة وصغيرة وقضايا كبرى وصغرى ومواقف متنوعة تكتظ بها الدنيا لكنه لايتوقف إلا أمام مايهمه ولا يمعن النظر بهذا الذي يهمه إلا بمقدار امتناعه عن الانقياد له وعدم الاستجابة لرغبته وحتى حين يهتم به فإنه ينظر إليه ويقيِّمه طبقًا لتصور مسبق وإطار فكري محدَّد وبداهة تلقائية راسخة، ومعايير تقييم مستقرة فيبقى التقييم محكومًا بآليات ذهنية تلقائية هي في الغالب أبعد ما تكون عن التقييم الموضوعي.. إن الحركة العشوائية التلقائية هي التي تتحكَّم بالوعي التلقائي وتستهلك طاقته وتبدِّد وقت الإنسان أما أحكامه على الأشخاص والأفكار والتصورات والأشياء والأوضاع والمواقف والرؤى فتفيض انسيابًا تلقائيًّا من مخزون اللاوعي الذي تبرمج به تلقائيًّا.. إن القضايا الإنسانية الكبرى هي قضايا معقدة وذات تركيب شديد وتتكوَّن من عناصر كثيرة استغرقت اهتمام أعظم العقول خلال التاريخ ومازالت تستغرقهم دون حسم وقد ينقطع لها أو لواحدة منها علماء وباحثون سنوات طويلة وربما قضى أحدهم سنوات عمره كله وهو يتعمَّق ويدقق ويقارن ويتأمل وينقضي عمره وهو يلاحق تشققات القضايا وتفرعات الأسئلة وتجدُّد الإشكالات فيزداد إحساسًا بغموض الوجود وعظمة المهمة وضآلة الطاقة الفردية وقِصَر العُمر أمام الصعوبات الفكرية التي لاتنتهي، أما صغار العقول فيتوهمون أن كل شيء واضح وبدهي فأمام هذا الإحساس المتأجج لكبار العقول يندفع الواثقون بسذاجة فتندلق منهم أحكامٌ مسبقة جاهزة بشكل جازم وقاطع وثقة عمياء صماء من غير أن يشعروا بأنهم لم يصلوا لأحكامهم بواسطة البحث الموضوعي والتحقق العلمي وإنما هي أحكام مسبقة تبرمَجوا بها تندلق من اللاوعي من غير أي تمحيص أو تبصُّر.. إنها معضلة بشرية كبرى ومزمنة ولكن الأشد إعضالاً أن هذا التدفق التلقائي الجارف الماحق الذي يبدد طاقة الوعي وتضيع به وفيه أعمار الناس وتَنتج عنه أضرارٌ خاصة وعامة لانهاية لها لم يصبح موضوعًا للنقاش العام بل بقي محصورًا في نطاق الفلسفة والعلم ضمن دوائر ضيقة ونَجَمَ عن ذلك بقاءُ هذه المعضلة خارج نطاق الاهتمام الإنساني العام فلم تُصْدم بها عقول الناس ليتداركوا سلبية وعيهم، ويعوِّدوه على التوقف والتركيز والتعقُّل والتحقق فبقي الناس يجهلون الإمكانات العظيمة التي أضاعوها على أنفسهم والوقت الثمين الذي بدَّدوه والطاقة الهائلة التي أهدروها والأخطاء المتتالية التي وقعوا فيها والأضرار المتلاحقة الخاصة والعامة التي نتجت عن كل ذلك أما الهدر البشري العام والضرر الذي نجم عن ذلك على مستوى الإنسانية كلها وأجيالها المتعاقبة فإنه هدرٌ لايمكن قياسه فهو هدرٌ هائل وضياعٌ فظيع وأضرار لانهاية لها فما أكثر النزاعات والحروب والقلاقل التي نجمت عن هذه التلقائية.. إن جهل الناس بتلقائيتهم هو جهلٌ تلقائي إنهم غافلون عن أن طبيعتهم التلقائية تؤدي إلى أن يبقى وعيهم في حالة تلقائية سائبة وأنه ينجم عن ذلك أضرار خاصة وعامة فادحة.. إنها إشكالية إنسانية كبرى لكنها إشكالية مزدوجة مركَّبة فهذا الجهل طبيعي وتلقائي وغير معلوم لصاحبه فهو لايلاحظه من نفسه إلا إذا انتبه بشكل استثنائي فإدراكه ليس تلقائيًّا بل مضادٌّ للطبيعة التلقائية وإن غياب الإدراك لهذه الإشكالية الإعضالية العامة الممتدة في الزمان والمكان هو الذي جعل نتائج العلوم على العقل البشري نتائج ضئيلة بل في منتهى الضآلة فتأثيرها حتى في المجتمعات المزدهرة بقي محصورًا في الجوانب العملية والمهنية أما البُنى الذهنية فظلت مغلقة ومحمية عن تأثيرها وبذلك حُرم الفرد والمجتمع والإنسانية أجمع من النتائج العظيمة التي يتمخض عنها الوعي المستيقظ حين يخرج من تلقائيته فالوعي بها يقلل من شرورها، ويتيح الحصول على منافع التحرر منها وتتغيَّر به رؤية الناس عن أنفسهم وعن غيرهم وعن الوجود كله وبذلك تتمحص تصوراتهم وتتعقَّل استجاباتهم وتكون أحكامهم أقرب للعدل فيرتقي سلوكهم وتتهذب العلاقات فيما بينهم.. إن التوهم التلقائي لفاعلية الوعي في سيلانه التلقائي قد أبقاه هائمًا وتائهًا تلقائيًّا عن التمعن في ذاته وعن التحقق من فاعليته كما أبقاه غير فاحص لما يراه ويسمعه ويعايشه.. إن هذا التوهم قد حَرَم الناس من معرفة ضرورية أساسية فبقي وعي الإنسان تلقائيًّا غالبًا دون نظام يضبط حركته ويوجِّه طاقته ويرَشِّد نشاطه ولكن تلقائيته والأحكام المسبقة التي تشكَّل بها ذهنه وتكونت بها عواطفه توهمه بالكمال لمعرفته والاكتفاء بفهمه ووعيه فكل شخص يعتقد غالبًا أنه يملك البصيرة النافذة والحكمة البالغة.. إن الخروج من تلقائية الحركة العشوائية للوعي لايحصل تلقائيًّا وإنما هو من أصعب وأدق الأفعال القصدية الاستثنائية المستنفَرة. إنه خروجٌ عن التلقائية الطبيعية إنه توقُّف عن الانسياب التلقائي فهو قصديٌّ بامتياز لكنه لايحصل تلقائيًّا فلابد أن تسبقه إثارةٌ تستفزه وتحشد طاقته للتركيز إنه انتقالٌ استثنائي من مستوى الوعي الذاتي التلقائي إلى مستوى الفعل المعرفي الموضوعي المستثار وهو يتعارض مع الطبيعة التلقائية التي هي الأصل في حركة الوعي فالتحقق ليس تلقائيًّا وإنما هو انقطاع عن التلقائية وتوقُّف عن الإنسياب وإمعانٌ واستنفارٌ لطاقات العقل العليا التي تستبقيها التلقائية والثقة بالأحكام والتصورات المسبقة نائمة أو راكدة وغير فاعلة.. إن التحقُّق يتعارض مع الحركة التلقائية للوعي كما يتعارض مع منظومة الأحكام المسبقة التي هي الأصل في البنية الذهنية المستقرة فالوعي التلقائي بطبيعته لايسعى للتحقُّق وإنما ينطلق تلقائيًّا نحو اهتمامات تخدم البقاء كدافع تلقائي إنه يمتح تلقائيًّا من الأحكام المسبقة التي تشكَّل بها عقله أما عن مطلب التحقق فمن النادر استحضاره لأنه ليس من الأفعال التلقائية للوعي فهو ليس من متطلبات البقاء ولا تسمح به الأحكام المسبقة الثابتة وكما يقول مايكل شيرمر :(إن الإنسان قد تطوَّر كمخلوق يبحث عن التنميط قبل أن يُحَكِّم العقلَ والأسبابَ الطبيعية)؛ فالنمط والقيمة والنموذج ومحور الاهتمام والتصور المسبق هو مصدر الرؤية والموقف والتقييم ثم إن كل إنسان يعتقد غالبًا بشكل تلقائي أنه يعرف الموضوع الذي يتحدث عنه حتى ولو لم يسبق أنْ اهتمَّ به أو بَحَثَه أو تَوقَّفَ عنده لأنه عادةً لايدري أنه لايدري أي أنه يجهل جهلَه فليس من طبيعة الإنسان عمومًا اكتشاف هذا الوهم إلا في حالات استثنائية نادرة حين يتوقف وعيٌ فرديٌّ فذٌّ أمام ظاهرة الأحكام المسبقة الخاطئة التي يراها من ذاته ومن غيره على الأشخاص والأعمال والأوضاع والمواقف والرؤى أو حين يكتوي بنيران التقييمات التلقائية البليدة الجائرة.. إن الإنسان غالبًا يثق تلقائيًّا ثقة عمياء بوعيه إنه محكومٌ بالغفلة التلقائية فهو لايفطن بأن الوعي محكومٌ بما ينساب تلقائيًّا من مخزون اللاوعي وأنه يجري بحركة تلقائية وأنه ينزلق من موضوع إلى موضوع من دون توقف، وأنه يدور في الفراغ من غير تحديد فلا يتعمق بأي شيء ولايدرك هذه الظاهرة البشرية سوى عقل ريادي استثنائي خارق كما هي حال الفيلسوف الألماني هوسرل الذي قال عنه جرانيل :(إن هوسرل أعظم فيلسوف ظَهَرَ منذ الإغريق) فبوثبة عقلية باهرة أدرك طبيعة السيلان التلقائي للوعي ما لم يتعرض لصاد يوقفه. إن هذا الانزلاق التلقائي للوعي يُهَمِّش القدرات العليا للعقل ويستبقي الجهل المركَّب سائدًا ويحمي الأوهام من الكشف والفحص والتحليل فيسود سيلان الأحكام المسبقة لذلك كان ظهور فلسفة أو علم الظواهر أشبه ما يكون بثورة فكرية لو شاعت في الثقافات الإنسانية لأدت إلى تحولات كبرى شاملة في الوعي الإنساني لكنها ثورة مازالت معدومة التأثير على مستوى الوعي الإنساني العام فلم تصبح بَعْدُ مشكلةً أو ظاهرة أو معرفةً متداولة بين الناس، ولم يصبح هذا الاكتشاف العظيم موضوعًا للمعرفة العامة وإنما بقي تتداوله القلة المثقفة فقط.. إن فاعلية الوعي لاتتحقق إلا بعملية تتكوَّن من خطوات : الخطوة الأولى إدراك تلقائية الوعي .. الخطوة الثانية التوقف عن هذه التلقائية وإيقاظ الوعي لمواجهة الموقف أمام ماضيه وحاضره والموضوع الذي هو بصدد معرفته فينتقل بذلك من التلقائي إلى القصدية .. الخطوة الثالثة تعليق الحكم على الموضوع مؤقتا لاستبعاد الأحكام المسبقة ومحض الموقف ما يستحق من اهتمام وتركيز وتمعُّن .. يُلخص ليشيك كولاكوفسكي في كتابه عن (هوسرل) هذا المنهج بقوله : (فالمنهج الفينومينولوجي يقوم على مباطنة الحقائق الأولية ولكن في الجهد المتصل لتطهير الوعي الذاتي من القوالب الجاهزة والساذجة ومن الآراء الشائعة اليومية ومن البداهات الظاهرة للعلم ومن المفاهيم الموروثة والمضللة ومن حجب الاختلاف بين وقائع التجربة ومحتواها). إن ليشيك قد كرَّس كتابه لنقد المنهج الفينومينولوجي لكنه لم يكن مقنعًا غير أنه كان موضوعيًّا وأمينًا في العرض.. يقول إدموند هوسرل :(علم الظاهريات الخالص .. إنه جوهريا علم جديد ينأى بنفسه عن الفكر الطبيعي)، ويقول :(لايعني لفظ القصدية شيئًا غير ما يختص به الوعي بصورة جوهرية وعامة من كونه وعيًا بشيء ما ومن كونه يحمل بوصفه تفكيرًا موضوع تفكيره في ذاته)، ويقول دوفرين :(إن القصدية عند هوسرل ليست هي تلك القدرة التي يتجه بها الوعي صوب الموضوع بل هي كيان الوعي بوصفه كيانًا منفتحًا على الموضوع). إن القصدية تعني قطع تلقائية حركة الوعي المنساب وإجباره على التوقف الفاحص لفحص ذاته والتمعن في الموضوع الذي عليه أن يعرفه.. إن الناقد الشهير رتشاردز يرى أن الظواهرية أعظم الثورات الفكرية فيؤكد في كتابه (مبادئ النقد الأدبي) بأنه :(ريما لاتوجد ثورة في الفكر الحديث تفوق أهمية تلك الثورة التي نتجت عن اكتشافنا المتزايد لما نتحدث عنه وقد أعقبت هذه الثورة بالضرورة تغيراتٌ شاملة في مواقفنا إزاء العالم والإنسان ومن ضمن هذه التغيرات نخص بالذكر ثلاث نزعات : نزعةٌ واسعةُ الأفق إلى التسامح وأخرى إلى الشك وثالثة ترمي إلى إقامة دوافعنا السلوكية على أساس أسلم).. إن إدراك الطبيعة التلقائية للوعي تترتب عليه نتائج عظيمة فردية واجتماعية وإنسانية ومع صعوبة الانفكاك من هيمنة التلقائية فإن هذا الإدراك يخلق حساسية جديدة تجاه العالم ويفتح للوعي آفاقًا كانت محجوبة بالتلقائية فحين يعلم الناس بهذه الطبيعة التلقائية الخادعة المضلِّلة للوعي فإنهم سيضعونه موضع المساءلة فلا يقبلون منه أحكامه المسبقة إلا بعد تحليل وتَثَبُّت كما أنهم سوف يتوقفون عن الثقة التلقائية الصماء العمياء بأحكامهم غير الممحصة فيحل الشك والتحقُّق محل الوثوق الأصم الأعمى، وتنشأ فيهم عادةُ التأني والفحص والتمعُّن وبهذه العملية الإدراكية الواعية يتخلخل الوثوق التلقائي الساذج فينهار الصلف وتجف منابع الرعونة ويتقوَّض التعصب ويحل محله الرفق والتسامح والتواضع ليس هذا فحسب بل يحصل بهذا الإدراك لطبيعة الوعي تبدُّلٌ عميقٌ وشاملٌ في تفكير الفرد وسلوكه وتعامله وعلاقاته وأحكامه وتقييماته ومواقفه من الأشخاص والأعمال والمواقف والرؤى، إنه تبدُّل نوعي في الوعي ومع الزمن وتوفُّر وسائل التواصل بين الأمم يمتد هذا التبدل إلى المستوى الإنساني كله فتكتسب البشريةُ بداهةً جديدة ممحَّصة فيحل الوئام محل الخصام وبذلك تتجه الإنسانية نحو النضج الثقافي وتصبح قادرة على التفاهم والتلاقي والاعتراف المتبادَل... يقول المفكر المغربي عبدالسلام بنعبدالعالي في كتابه (ثقافة الأذُن) :(كانت ثورة هوسرل تتمثل أساسًا في إقامة نظرية تجعل من الوعي واقعةً فريدةً ..) ثم يقول :(ما أبعدنا عن فكرة القصدية التي تجعل التفكير انفصالاً وقطيعة ) ويؤكد كولن ولسو في كتابه (فن الرواية) :(إن المشكلة المركزية للوعي الإنساني مرتبطةٌ بالربوت وهو الجزء الآلي (التلقائي) فينا.. ومن ناحية أخرى فإننا حالما ندرك أن القوة التي نرى بواسطتها العالم تعتمد اعتمادًا كليا على مدى الاهتمام الذي نضعه في عملية الإدراك) وتقول الفيلسوفة البريطانية ميري ورنوك في كتابها (الذاكرة في الفلسفة والأدب) :(لقد وصَفَ هوسرل طريقته الفلسفية بأنها وضْع العالم بين قوسين وكان يعني بذلك أن تُنحَّى عن العقل كل معرفة علمية وكل افتراض مسبق وكل شيء تعلمناه لكي يصير بالإمكان الكشف عن جوهر الأشياء كما نجرِّبه فعلاً.. ذلك ما كان يعنيه بالرجوع إلى الوقائع نفسها)، ويقول تيري إيجلتون في كتابه (نظرية الأدب) :(وضَعَ هوسرل الموضوع الواقعي بين قوسين للقيام بفعل معرفته) فالتعرف هو فعلٌ قصديٌّ دقيق.. أما أستاذ الفلسفة الدكتور عبدالغفار مكاوي فيقول في كتابه (شعر وفكر) : (لعل من أهم الاكتشافات التي توصلنا إليها حتى الآن اكتشاف الفارق بين التجربة المباشرة والبحث (المقصود الواعي) فنحن حين نعيش في العالم لانعيش كما لو كنا نريد أن نجعله موضوعًا للبحث أو كما لو كان مبحثاً نهتم بالنظر فيه وحتى لو وجَّهنا اهتمامنا نحو الجزئيات فإننا لانبحث في بيئة هذه الأشياء ولا في آفاقها التي تُعطَى)، ويقول د. مكاوي :(وينبغي علينا فيما يتعلق بمسألة البحث أن نلتفت إلى أمر مهم يتصل بمنهج الكشف الظاهراتي .. إن ما أجده عندما أغيِّر موقفي وأتجه إلى البحث لايبقى علي ما كان عليه في الأصل أي على ما كنت أجرِّبه تجربة مباشرة وأحياه حياة مباشرة). إن الأصل في الوعي أنه مؤطَّر بما يتبرمج به وبنمط التفكير السائد الذي اكتسبه وأنه ينساب أو يتدفق تلقائيًّا من اللاوعي ومن تنميطاته الجاهزة المستقرة وأن تلقائيته تجعله لايتحقق ومع ذلك فإنه يتوهم أنه متحقِّق من كل ما يقع تحت تقييماته وأحكامه لذلك فإن علم الظواهر يرى ضرورة وقف الانزلاقات التلقائية للوعي .. والانفصال عن الجاهز .. والقطيعة مع الوثوق التلقائي البليد .. وإجباره على التوقف وإمعان النظر في ذاته والتمعن في أي موضوع قبل تقييمه أو الحكم عليه.. إن المعرفة الحقَّة لاتتحقق تلقائيًّا بل إنها فعلٌ قصديٌّ مضادُّ للتلقائية، إن علم الظواهر يطالب الإنسان بأن يسائل وعيه ويوقف سيلانه وأن يتفهَّم العالم تفهمًا استئنافيًّا يَجُبُّ السوابق ويكتسب بداهة جدِّية جديدة مختلفة نوعيًّا عن البداهة التلقائية وإن على الإنسان بأن يتوقف باهتمام وتمعُّن أمام طبيعة وعيه وأمام الموضوعات وأن يتعرَّف عليها ويفحصها بدقة وعمق فالمعرفة الحقيقية لاتتكوَّن تلقائيًّا وإنما هي ثمرةٌ للفعل المعرفي إنها نتاج القصد والفحص والتعرف بعمق وتدقيق.. إنها خروج الوعي عن سلبيته وصد تدفقه التلقائي والتحرر من أحكامه المسبقة..

مشاركة :