يقول الشاعر جاسم الصحيح القراءة التي لا تُفضي إلى تغيير خارطة الوعي ليست قراءة، داعيا كل من يقرأ إلى أن يكون على أهبة الاستعداد للتغيير بين كل لحظة وأخرى، علاوة على أنه يعتبرها وسيلة الخلاص الناجعة حينما تكون الذات هي السجينة، مميزا لها بأنها وسيلةٌ مشروطةٌ بالاستعداد الذاتي لهذا الخلاص.. الاستعداد للتخلُّص من المرشد أو شيخ الطريقة كما يقال فإلى الحوار: القارئ المتعصب لأفكاره لا يرى في الكتب والمعلومة الجديدة سوى أعداء يجب القضاء عليهم * ما الكتاب الذي أحدث تأثيرا فيك بعد قراءته؟ - أعتقد أنّ التأثير يأتي من معظم الكتب التي نقرؤها، وحينما يتراكم التأثير فوق التأثير يبتدئُ التغيير. ولكنْ قبل الدخول في ثنايا الإجابة، لا بدّ من كلمة حول القراءة وأهميَّتها. لم يكن مخطئا أبدًا ذلك الذي زعمَ أنّ للإنسان ثلاث رئات، هنَّ كالتالي: رئتاه بالمعنى البيولوجي للرئة، إضافةً إلى القراءة التي يتنفَّس المرءُ من خلالها هواءَ المعرفة كي يحقق كينونته الإنسانية الكاملة. إنّ إيقاع الواقع من حولنا غير منتظم في دواخلنا، لذلك فإننا نحتاج للفن والشعر والثقافة من أجل أن نحدث التوازن بين الداخل والخارج كي ينتظم الإيقاع. هذه الفكرة هي خلاصة ما توصّلتُ إليه من هدفٍ جوهريّ للقراءة، ولكنَّني بالتأكيد لم أكنْ أعي هذه الفكرة عندما بدأتُ أقرأ مدفوعا بحيثيَّة الرغبة للقراءة التي قادتني دون وعي للكتابة، وكأنّ العلاقة بينهما علاقة الروح بالجسد. ولا شكّ أنّ القراءة تتمثل في مستويات عديدة أو طبقات متراكمة تعتمد على القارئ في الحصول على استحقاقه منها حسب نموّ ثقافته، لذلك فإنّ القارئ في بداياته لا يمكن أن يستثمر أيَّ كتابٍ يقرؤه كامل الاستثمار إذْ دائما ما نستطيع أن نعود إلى ذات الكتاب في مراحل لاحقة ونجد أنفسنا قادرين على الاستفادة منه من جديد وكأنَّ الكُتُبَ كالأنهار لا يمكن أن تسبح فيها مرتين. بالنسبة لي، قد يكون كتاب (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي) هو الكتاب الأهمّ في المرحلة الأولى من حياتي، خصوصا وأنّ كتاب نهج البلاغة في حدّ ذاته يحتوي على خُطب الإمام علي رضي الله عنه وهي خُطب رائعة في مضمونها وعالية في لغتها وذات قدرة على اختراق الوجدان الإنساني بما تملكه من وهجٍ إيماني، وافتتاح العقل البشري بما تملكه من ألقٍ معرفيّ. إضافةً إلى كلِّ ذلك، فإنَّ (ابن أبي الحديد) كان شاعرا وكان يكثر من الاستدلال بالشعر والبلاغة والأحاديث والروايات في شرح تلك الخُطب الشاهقة، الأمر الذي جعل من شرحه بانوراما معرفية تغذي العقل والوجدان. في ذات المرحلة الزمنية، أتذكر كتاب (المستطرف في كلّ فن مستظرف) الذي كان بمثابة فاصلٍ ترويحي لي ما بين الكتب الشعرية والفكرية. هذا الكتاب يستحضر الجانب الظريف من التاريخ بما يحمله من نكهة فكاهية في بعض أبعاده قادرة على تحقيق المتعة الفنية في النفس. ولا شك أنّ كُتبا مثل (ألف ليلة وليلة) و(ملحمة عنترة بن شداد) و(ملحمة الزير سالم) كانت هي التُحف التي طرَّزت مرحلة التلقي الأولى في حياتي. في المرحلة التالية، كانت الكتب الصوفية والأدبية هي المحطة الأهم، وكان (ابن عربي) في (فتوحاتِه) و(الحلاج) في تجليَّاته وبقية المتصوفة الكبار.. إضافةً إلى (ابن خلدون) في مقدمته و(بديع الزمان) في مقاماته و(المبرد) في (الكامل) وغيرهم كثير مِمَّنْ كانوا ندمائي على طاولة السهر. ثمَّ توالت المراحل العديدة التي فتحتْ بوابة القراءة على ثقافات العالم كلِّها قديمة وحديثة.. وكلّ مرحلة تعضد أختها وتضيف إليها مخزونا جديدا من الوقود الذي يدفع مركبة الكتابة باتجاه الحياة. ولعلَّ منجزات بعض الأدباء والمفكرين مثل علي الوردي، طه حسين، العقاد، زكي مبارك وسواهم ممن تطول قائمةُ أسمائهم.. كانت هذه المنجزات محلّ اهتمامي وشغفي خلال مراحل لاحقة. القراءات لم تكن مقتصرة على جانب ثقافي، إلا أنّ الجانب الشعري كان هو الطاغي على كلِّ جوانب القراءة. وأعتقد أنّ بدايتي مع التركيز على شعراء العمود الشعري في كلِّ أزمنة الشعر العربي منذ العصر الجاهلي مثل شعراء المعلقات ومشتقاتها حتى العصر الحديث مثل أحمد شوقي والجواهري وعلي محمود طه وعمر ابو ريشة وبدوي الجبلي وغيرهم.. هذا التركيز جعل مني شاعرا عموديا لدرجة أنني أشعر بحضور العمود الشعري حتى في شعري التفعيلي الحر. * ما نوع التأثير وهل أنت مقتنع به. وما مدى استمراره؟ - هذا السؤال عن فكرة التأثير مهم جدا. أعتقد أنّ ذاتنا الإنسانية موثوقةٌ في سجونٍ تراثية محكمةُ الإغلاق، ولا يمكن لها الانعتاق وحلّ الوثاق إلا بالانفتاح على ثقافات جديدة عبر إحداثِ ثُقب في الغلاف الإيدلوجي الذي يحيط بنا من الداخل، وليس ثمة مثقابٌ حادّ يستطيع أن يؤدي هذه المهمة بإتقان داخل كل فردٍ مِنَّا مثل القراءة الواعية التي تعنى بصناعة الوعي بالوجود، وتشكيل الذات، وفكّ الارتباط بكلّ ما هو موروث من الغيبيات والماورائيات، وزعزعة الطمأنينة من أجل ولادة إنسانية جديدة لا يمكن إدراكها إلا عبر هذه القراءة الواعية التي تبدأ معها دورةُ الأرض بالتشكل من جديد في ذهن القارئ. أَجَلْ، إنها إعادةُ ولادة تحتاج للعبور بمخاضات ومكابدات لا نهائية ما دامت القراءة في حَدِّ ذاتها ممتدة بامتداد الحياة في معناها المعرفي، ولا يمكن أن ترسو عند ساحل أخير. لذلك كلِّه، لا يمكن أن تمرّ بالكتب العظيمة دون أن تتأثر بمعطياتها الإنسانية لدرجة أن تُعيد صياغةِ وعيك تجاه الحياة. خذ مثلا كتاب (تاريخ القراءة) للكاتب الأرجنتيني المعروف (ألبرتو مانغويل) الذي لامسَ وجدانَ كلِّ قارئيه بما قدَّمه من أفكار عن القراءة وعلاقة الإنسان بالكتاب. وخذ مثلا آخر كتاب (قصة الحضارة) للكاتب (ول ديورانت) الذي استقصى نشوء الحضارات الإنسانية منذ بداياتها حتى العصر الحديث في كتاب من عشرات المجلدات. وهناك العديد من الكتب الهامة التي فتحت لي أفقا جديدا من التفكير مثل كتاب (أطفال الطين) لمؤلفه صاحب جائزة نوبل (أكتافيوباث)، وكتاب (اللا منتمي) لمؤلفه (كولن ولسون). الخلاصة، لا يمكن لقارئ واعٍ أن يقرأ (ولو قليلا) من هذه الكتب العظيمة دون أن يتأثر، إلا إذا كان بوسع النمر أن يعبر النهر دون أن يبتلَّ بالماء. لقد قلتُ في إحدى قصائدي: أنا في امتدادِ حقيقتي لا أنتهي مهما نزلتُ على النهايةِ منزلا في كلِّ حاجزِ لحظتَينِ أطوفُهُ تنمو الرؤَى وأكادُ أن أتبدَّلا القراءة التي لا تُفضي إلى تغيير خارطة الوعي ليست قراءة، ولكنْ (شُبِّهَ لهم). أن تقرأ يعني أن تكون على أهبة الاستعداد للتغيير بين كل لحظة وأخرى، وليس بين كل ساعة وأخرى. أنت لست إلا (جَمَّالاً)في صحاري الأفكار تبحث عن العشب والكلأ اللذَينِ تحتاجهما كي تستمرَّ بك الحياة، وكلما وقعتْ رؤياكَ على بقعة خضراء أنختَ ركابك قليلا، ولا تكاد تجفّ هذه البقعة حتى يدعوك الجوع والعطش للبحث عن أخرى دون أن تفقد متعةَ الترحال حيث إنَّ الوصول إلى المنبع ليس أكثر لذَّةً من لذَّةِ الرحيل عنه ما دُمتَ أيُّها القارئُ/الرحَّالةُ تبحثُ عن الحقيقة. * هل ترى أن القراءة محرك أو دافع للتغيير في وقتنا الحاضر؟ - أيضا، سبقَ أن قلتُ في إحدى قصائدي : خلعتُكَ يا شيخي هنا ينتهي الوِردُ فسِرُّ خلاصي أنه مسلكٌ فَردُ القراءة هي وسيلة الخلاص الناجعة حينما تكون الذات هي السجينة، ولكنّها في نفس الوقت وسيلةٌ مشروطةٌ بالاستعداد الذاتي لهذا الخلاص.. الاستعداد للتخلُّص من المرشد أو شيخ الطريقة كما يقال، ولا يمكن لها أن تنجح في غياب هذا الاستعداد.. بل ربما أضافت قيدًا إلى القيود وسورًا حول الأسوار. فالقارئ المتعصب لأفكار مسبقة لا يرى في الكتب والمعلومة الجديدة سوى أعداء يجب القضاء عليهم وكأنَّ القراءة معركةٌ بين الأفكار حتى الموت، بينما القراءةُ في حقيقتها هي معركةٌ بين الأفكار ولكنْ حتى الحياة. إنَّنا نقرأ كي نعيد تشكيل الهوية الذاتية وترميم العقول واستلهام العبرة من ذاكرة الأمم والشعوب. لذلك، سبقَ أن قلتُ وأقول الآن للقارئ: لا تكن قارئا متعاليا على ما تقرأ، ولا حتى قارئا مثاليا يعيش طوباويَّة الفكرة.. كن فقط قارئًا طفلًا يتجول في شوارع المعرفة ويدخل في حوانيت الدهشة ويقتني ما شاء من تُحف الأفكار والمعاني. كن قارئا متورِّطا بالجمال حدّ الفتنة، مؤمنا أنّ كلّ محطات الحروف هي مواسم عطاء وبيادر حصاد، متيقِّنا أن الكلمات التي تأخذها الريحُ لا تذهب بها إلى المجهول، وإنما إلى عذوق النخيل رحيقاً يلقِّح سلالة الحياة.
مشاركة :