بين الحين والآخر يتناقل الإعلام خبراً محزناً بغرق مجموعة من المهاجرين غير الشرعيين إلى شواطئ أوروبا، هؤلاء المساكين الذين تركوا عائلاتهم وبلدانهم من أجل وضع ينعمون فيه بـ «الحياة الحقيقية» لم يستطيعوا بلوغ أمانيهم حينما ملأوا مراكبهم الرديئة بما لا تستطيع حمله فكان الغرق هو المصير الطبيعي لهم، أما هذه الحوادث فهي عادة لا تُثني شبابهم عن التأمل في البحر والسعي والتمني بأن يحالفهم الحظ قريباً للوصول إلى الحياة بعيداً عن ديارهم، شخصياً أرى المركب الغارق الذي يحمل العشرات وطاقته أقل بكثير من هذا الرقم كمثل الدائرة الخدمية أو المستشفى الذي يمتلئ بطوابير المراجعين فيما الطاقة الخدمية له لا تسعفه لعلاجهم، وبالنتيجة يعودون خائبين أو تنال منهم الأخطاء الطبية التي هي نتيجة طبيعية لضغط العمل الشديد على الأطباء والممرضين. الدائرة التي تقدم الخدمة لعدد يفوق بكثير طاقتها الاستيعابية سيكون الغرق والفشل نتيجة طبيعية لها وليس لأحد أن يتوقع أي نجاح في وضعٍ كهذا. في المملكة وفي إحصائية تعود لنهاية 2013 كان متوسط عدد الأسرّة الطبية هو 20 سريراً لكل 10000 مواطن، بينما يصل المتوسط في الإقليم الأوروبي إلى 63 لكل 10000 مواطن، أما المعدل المقبول حسب ذات الإحصائية فهو 36 سريراً وهذا ما نحن بعيدون عنه بكثير، وهذا يبرر بوضوح الضعف في الأداء الصحي عموماً، انطلاقاً من ذلك وإذا ما أرادت وزارة الصحة النهوض بهذا القطاع الحساس فإنَّ عليها مجموعة من التحديات والقرارات المهمة التي ربما كان من أهمها زيادة «عدد الأسرّة» من خلال منشآت صحية جديدة، وإذا توفرت جميع الظروف، من طاقة استيعابية مناسبة وأطباء وممرضين أكفاء وكذا مواصفات ومقاييس عالية للمبنى الطبي ولم يحصل هذا النجاح، فإنَّ الحديث هنا سيكون في الجانب الإداري البحت، وهو الذي إن ساء فإنَّ جميع ظروف النجاح لن تكون كافية لحدوثه. التعبير المصري «تخاف ما تختشيش» هو تعبير يصح أن يكون قاعدة إدارية لها ثمار مهمة على الأرض، حين الحديث عن الإهمال والتسيب يجرنا الحديث حول العقوبات الرادعة التي طُبقت على المتسيبين، بحيث تمنعهم من تكرار ذلك، العقاب يجعل من غير المقتنعين بالالتزام يخافون ذلك حتى وإن كانوا في باطنهم أشخاص «ما تختشيش»، التطور التقني المتسارع جعل حل شيء من هذه المشكلة أكثر سهولة، فنظام البصمة مثلاً يستطيع أن يضبط الحضور والانصراف قبل ونهاية الدوام وكذا في وقت الصلاة والغداء تماماً، ويمكن كذلك ربطه مع برنامج الرواتب الشهرية payroll بحيث يتم خصم ساعات التأخير والخروج قبل الدوام بشكل آلي، وهذا الأمر يستطيع أن يمثل رادعاً حقيقياً للتسيب لأن الموظفين سيكونون متأكدين أن الراتب الشهري سيكون أقل بكثير مما ينبغي بسبب خصم الجزاءات، وهناك كذلك سلسلة المخالفات الموجودة في نظام العمل وعقوباتها التي في تطبيقها ردع حقيقي ومؤثر على المخالفين، هذا النوع من الضبط عموماً ومعاقبة المتسيب هو ما سيرتقي كثيراً بالقطاع الصحي وبغيره، بطبيعة الحال فإنَّ ذلك مرهون كما أسلفت بأن يكون معدل الطاقة الاستيعابية للمستشفيات متناسباً مع عدد السكان، أما إذا لم يكن كذلك فإنَّ الغرق والأخطاء الطبية ستستمر وستبقى المستشفيات عُرضة دائماً لمزيد من الأخطاء الطبية بما ينعكس سلباً على المواطن.
مشاركة :