في الكلمة الافتتاحية لمنتدى فينتك الشرق الأوسط وإفريقيا2020 الذي عقد بمملكة البحرين للمدة (24 - 25) نوفمبر 2020 عبر منصة افتراضية تفاعلية توقع الاستاذ صائب الوعري نائب الرئيس التنفيذي لمجموعة بنك ABC استمرار العادات والسلوكيات الجديدة التي نشأت كاستجابة لجائحة كورونا (كوفيد-19)، وأنها مرشحة للمساهمة في زيادة نمو ما أطلق عليه «اقتصاد التباعد الاجتماعي».. فماذا نعني باقتصاد التباعد الاجتماعي؟ وكيف نشأ؟ وما أهميته؟ هذا ما سنتعرض له بالتحليل بمقالتين، مبتدئين ببيان معالمه الأساسية. فقد اصبح من المسلم به أن جائحة كورونا (كوفيد-19) مثلت منعطفا كبيرا في تاريخ الإنسانية، ليس لخطورة الفيروس على الصحة العامة فحسب، بل لآثارها وتداعياتها العميقة على المستويات الاقتصادية والامنية والسياسية والثقافية والاجتماعية والبيئية، فمن نتائج الجائحة أنها كبحت الإنتاج والإمداد والنقل الجوي عبر العالم، وأضعفت الطلب العالمي، وانهار القطاع السياحي وعزلت دول ووضعت تحت الحجر الصحي، وأخرى تحت حظر التجول، وأصابت قطاعات المال والاستثمار بخسائر فادحة نتيجة فرض الحكومات سياسة الاغلاق العام، وإحجام الناس طوعا او بفعل الاجراءات القانونية التي فرضتها نحو (150) دولة عن التفاعلات الاجتماعية خشية الإصابة بالفيروس. فقد شهد العالم بحلول مطلع شهر أبريل2020 إغلاق المدارس، وفرض منع التجمعات والفعاليات، وإغلاق تدريجي ثم شامل لمواقع العمل لاحتواء تفشي الفيروس. وتم فرض قيود على السفر على نطاق اقليمي وعالمي. وبالتالي، من غير المرجح أن يؤدي التعافي النسبي وإنهاء الإغلاق العام إلى عودة التفاعلات الاجتماعية، والنشاطات الاقتصادية بذات الزخم والنمط اللذين كانت عليهما قبل الجائحة، بل من المحتمل استمرار التباعد الاجتماعي الطوعي سنوات عديدة بشكل او بآخر، سواء الناجم عن الخوف أو عن تطور الوعي الصحي، او تغير الثقافة العامة نتيجة العادات والسلوكيات الجديدة التي نشأت في ظل الجائحة ومن جرائها، الامر الذي سيترتب عليه سياسات اقتصادية جديدة، وأنماط استثمار ملائمة له، ستلجأ اليها القطاعات الاقتصادية لتفعيل نشاطاتها من جديد عبر إيجاد وسائل للعمل مترافقة مع قواعد التباعد الاجتماعي. لذا سيشهد العالم استمرار العمل من المنزل للعديد من الوظائف، وانجاز التعاملات المالية والمصرفية عبر الهاتف المحمول، والاعتماد على التجارة الالكترونية في التسوق، واعتماد البرامج الالكترونية في حجز المواعيد، والاستشارات، وإنجاز المعاملات، واستمرار مؤتمرات الفيديو وعبر المنصات الافتراضية التفاعلية، فضلا عن إعادة تنظيم الجلوس في مختلف وسائط النقل الجوية والبرية والبحرية بما يحقق التباعد الاجتماعي المناسب لتجنب الاصابة بالفيروس، وإعادة تصميم نظم الجلوس في القاعات الدراسية والمختبرات وورش التدريب في المدارس والمعاهد والكليات التي ستفتح أبوابها لاحقا. والامر ذاته مع المطاعم والمقاهي والمقاصد السياحية، والمسارح، وقاعات العرض السينمائية، والنوادي الصحية، وأماكن الانتظار في المستشفيات ومحطات القطار وغيرها، التي ستشهد ارتفاعا في أسعار الخدمات التي تقدمها بسبب هذه الإجراءات، بالإضافة الى إعادة ترتيب مكاتب الموظفين في الشركات والمؤسسات المختلفة، إلى جانب استمرار التعليم والتدريب عن بعد في العديد من المؤسسات التعليمية والتدريبية، والتوسع والاستمرار في اعتماد التقنيات المالية وإحلال الاقتصاد الرقمي، وبروز دور خدمات الروبوت، والخدمات اللاتلامسية، والتجارة الالكترونية، وتبني الخيارات التقنية في مختلف المجالات. وقد مثل هذا التوجه تحديا كبيرا للمجتمعات ترتب عليه في ظل جائحة كورونا فرص نوعية لانطلاق وتوسع الانشطة الاقتصادية التي تناغمت معه واستجابت لمتطلباته وتكاليف مالية واقتصادية جديدة تحملتها القطاعات الاخرى، وقد كانت الدول التي تمتلك بنية رقمية وتقنية متطورة قبل الجائحة هي الاكثر استثمارا لهذه الفرص والاقل تكلفة في التحول الواسع نحوها. يؤكد ذلك البروفيسور مايكل سبنس الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد بالقول: «لقد أثبتت البنية الأساسية الرقمية بالفعل أنها مصدر أساسي للمرونة الاقتصادية في هذه الأزمة، وفي غيابها، كان سيصبح العمل والتدريس عن بُـعد، والتجارة الإلكترونية، والخدمات المالية الرقمية في حكم المستحيل، وكان التباعد الاجتماعي الصارم سيفضي بالفعل إلى توقُّف الاقتصاد على نحو شبه كامل وسيترتب عليه تكاليف اخرى ايضا في مرحلة التعافي». وفي مرحلة التعافي سيبقى بريقه ساطعا، وخاصة ان المؤشرات التي ظهرت من انهاء الاغلاق التدريجي، والمبادرات الريادية الابداعية التي رافقت الحراك الاقتصادي المتنامي في مختلف دول العالم، تنبئ بحراك استثماري، وطلب فعال جديد في المجالات التي تحقق التباعد الاجتماعي من جانب آخر، وهذا ما يطلق عليه اقتصاد التباعد الاجتماعي.. أي ان جميع الانشطة الاقتصادية التي يمارسها الافراد والشركات تحقق الاجراءات الاحترازية توقيا من الفيروسات والاوبئة والامراض التي يمكن ان تنتقل بالتقارب الاجتماعي، من ناحية وتؤدي الى نمو اقتصادي مصحوب بتطورات في انماط الاستثمار والتقنية الناجمة عنها من ناحية اخرى. وبهذه الرؤية لا بد من أن يكون اقتصاد التباعد الاجتماعي اقتصادا قائما على الريادة والابداع والابتكار، ما يتطلب سياسات اقتصادية حكومية داعمة ومحفزة له، ولا سيما انه سيؤدي الى اعادة تشغيل الاقتصاد الوطني بنسق ونمط جديدين في ظل بيئة إقليمية وعالمية غاية في التعقيد والتحديات وارتفاع درجة المخاطرة واللايقين. وللموضوع بقية في مقال قادم إن شاء الله.{ أكاديمي وخبير اقتصادي
مشاركة :