من صغرنا لم يستولِ على أدمغتنا فصيل أو تيار، ولم يسلب إرادتنا وعقولنا زعيم أو صاحب سطوة وقرار. هكذا نشأنا في بيت يقوده ربان جميل حكيم، ملأ مكتبتنا بكل ما ينمّي روح الصلابة ضد أي إغراء والوقوف في وجه أي افتراء..وكان أبي يرفض أمامنا ونحن أطفال، مواقف كثيرة للزعيم جمال عبد الناصر، فيما كان الناس حولنا يخافونه ويرهبونه.. فلما مات عبد الناصر بكى أبي مع الباكين، وحين سألته ببراءة، قال: إنه زعيم مصر! أتذكر هنا بفخر شديد، والله على ما أقول شهيد أن أبي الذي لم يكن على وفاق مع عبد الناصر، وضع لي بخط يده، اسم «الناصرية» على أول مجلة مدرسية تصدر ثالث أو رابع أيام وفاة الزعيم، وقبل أن يتم استخدام المصطلح على نطاق واسع. ولأن أبي علمنا استقلال القرار ورغم أنه كان ساداتياً خالصاً لم ينهرنا ونحن أو بعضنا يعلن أمامه أننا لا نحب قرارات ولا حركات ولا تحركات الرئيس السادات.لقد ساعد انفتاح أبي على كل الثقافات والتيارات في السماح بنسمات يسارية ارتفعت قليلاً مع بدء خطبة شقيقاتي البنات. وفي منتصف السبعينيات عرف التيار الثوري طريقه لبيتنا حيث انصهار الحركة السياسية الطلابية، فلما تعرضت مكتبة بيتنا للتفتيش غير مرة، حار المفتشون الذين أصبحوا أصدقاء لي فيما بعد!.قال لي أحدهم وكان ضابطاً كبيراً: كنا نخرج من مهمتنا مرتبكين ولا ندري ما هي التهمة أو المسألة محل الشك! فاذا ذهبنا بداعي التخوف من اليسار، رجعنا وكأننا كنا نزور مكتبة الأزهر الزاخرة والعامرة بكتب الفقه والتفسير! واذا ذهبنا بداعي التخوف من اليمين عدنا معبقين بكتب هيجل وديكارت وآخرين!. هكذا كانت مكتبة أبي، وهكذا كان أولاده وبناته يفكرون.في المرحلة الثانوية والجامعية تعرفت على رموز الناصرية والاشتراكية واليسار، فأنا من عشاق أحمد فؤاد نجم، والشيخ إمام، وأعرف نجيب سرور، وأمل دنقل، وحلمي سالم، وحمدين صباحي، وأبو العز الحريري، وصلاح عيسي، وفيليب جلاب وآخرين.. المدهش أن أقراني في تلك المرحلة من العمر، كانوا يعتبرونني صديقاً ومن بيت يساري أصيل، ومن ثم رشحوني للعمل فيما بعد في جريدة «الأهالي» باعتباري «الرفيق شريف»!وكان ما كان ودخلت ساحة الفكر الإسلامي الجميل من بوابة الشيخ أحمد حسن الباقوري، الذي أدهشني استقباله لي بالبنطال والقميص «البارلون»، فلما دخلت ابنته للسلام عليه وكانت زوجة لأحد سفراء مصر طبعت قبلة على خده، فضحك وسألني ما اذا كانت قد تركت أثراً أم لا!. ثم عملت مندوباً مكلفاً لجريدة الجمهورية في الأزهر الشريف، ومن اليوم الأول انفردت «الجمهورية» بأول حديث مع الإمام الأكبر الجديد الشيخ جاد الحق علي جاد الحق!.في هذه الأثناء، تعرفت على من سبقوني في هذا الخط.. محمد عبد القدوس رمز الصحافة الدينية الجميلة، وصهر العالم الجليل الشيخ محمد الغزالي، ومحمد الزرقاني رمز الصحافة الدينية الرصينة، وصهر أكبر علماء الحديث في مصر والأمة الشيخ محمد مصطفى الطير، ثم الزميل الراحل ياسر فرحات ابن امام وخطيب مسجد الحسين الشيخ أحمد فرحات.. لكن ذلك كله لم يحل دون استمرار علاقتي بكرم مطاوع وسهير المرشدي، ثم شفيع شلبي وعطيات الأبنودي، ثم محمد منير وهاني شاكر.. بعدها رشحني كبار الصحفيين لأعمل في جريدة «المسلمون» في مقرها الرئيسي بلندن، وضحك الزملاء عزت الشامي، ويسري حسين، وسلوى الخطيب، وأحمد الجبيلي، وهم ينادونني «الشيخ شريف»!الآن، بعد هذه السنين، وبعد مروري على كل التيارات في مصر، فضلاً عن عملي بجريدة «الجمهورية» ثم عملي في صحف سعودية كبيرة بحجم «الشرق الأوسط» ورشاقة «الاقتصادية» ورصانة «الوطن» وعراقة «المدينة» أدركت قيمة وجود مكتبة عامرة في كل بيت، وجمال الانفتاح على كل الأفكار، وأهمية الصمود أمام أي إغراء من أي تيار!.. وفي أفراحنا وعزائنا في مصر لا تندهش كثيراً إن رأيت رموز اليسار، ورموز اليمين، ونحن جالسون في المنتصف نرحب ونمتن لكل مصري مخلص أمين!.
مشاركة :