مزبلة بحجم وطن

  • 8/23/2015
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

رغم أن رئيس الحكومة اللبنانية تمام سلام، يسعى جاهدًا لعقد جلسة حكومية، يتصدرها ملف أزمة النفايات التي دخلت شهرها الثاني، إلا أن كل ما يحكى عنه من حلول، لغاية اللحظة، يبقى مجرد مسكنات، لداء عضال، لا يني يستفحل. وكان أهالي بيروت وجبل لبنان، قد أرغوا وأزبدوا غضبًا، الشهر الماضي، بسبب القمامة التي اجتاحتهم، وأغلقت شوارعهم، نتيجة سوء الإدارة وفساد السياسة. وبدل التحرك السريع للبحث عن حلول جذرية، وهذا ما كان ينتظر، تفتقت القرائح الجهنمية عن وسائل لتوزيع المهالك على المناطق. ومن مهازل ما تقرأ أن «نفايات بيروت وكسروان تتسلل إلى الشمال خلسة، وهناك استنفار شعبي لمنعها» أو أن محافظ الشمال يقول للمواطنين المحتجين في مدينة الميناء، بسبب نقل نفايات بيروت إلى جوار منازلهم: «الشاحنات غافلتنا.. لا أستطيع أن أفعل شيئًا، انزلوا أنتم واحملوا السلاح، وامنعوها من الدخول». لجان أهلية أعلن عنها في بعض المناطق لرصد تهريب الزبالة واستغفال السكان لرميها بالقرب من أحيائهم ومواقع أرزاقهم، على غرار تلك التي رأيناها في البقاع لرصد تسلل عناصر «داعش»، إذ إن المخلفات المنزلية حين تبث غازاتها السامة، لا تقلّ فتكًا عن مقاتلي «الدولة الإسلامية المزعومة»، على ما يبدو. لا تستغرب أن تقع على نداءات على الـ«فيسبوك» يقول أحدها إن «شاحنة نقل محملة بالنفايات، بحسب شهود عيان، قطعت مفرق (كذا)، نتمنى على الشباب في هيئة الطوارئ في منطقة (كذا)، التأكد من الأمر لإنقاذ المدينة». فكل منطقة تعتبر أن لها من زبالتها ما يكفيها ويفيض، وليست بقادرة على استقبال المزيد. بات شاحنو النفايات ومهربوها، ينعتون بـ«المجرمين»، منهم من ألقي القبض عليهم بالجرم المشهود، وقذفوا بتهمة التسلل بشاحناتهم المحملة بالنفايات إلى مناطق آمنة ورموا فيها السموم، مقابل مبلغ يتراوح بين 500 إلى 700 دولار للشاحنة الواحدة. وقيل عن هؤلاء: «إنهم باعوا ضمائرهم وهم على استعداد لأن يبيعوا شرفهم من أجل حفنة من المال». لا تعرف إن كانت هذه الغيرة المستجدة على النظافة والظرافة، هي وعي متأخر بخطورة أن تعيش وسط أطنان من المخلفات المنزلية، دون أن تجد وسيلة للتخلص منها، أم هي مجرد عصبية مناطقية، تطال الزبالة كما يمكن أن تستفز لأي شأن آخر. في غاية السوريالية هذا الذي نرى ونعيش، تهرّب النفايات كما وكأنها المخدرات، وتنقل تحت جنح الظلام، تصريحات لنواب يتبرأون من تورطهم بفعلة شنعاء بهذا الحجم. مجموعات شبابية تقطع الطرقات اعتراضًا، وأخرى تذهب بالقمامة لتلقي بها أمام منزل وزير البيئة محمد المشنوق مطالبة باستقالته: «حضرة الوزير خد زبالتك وفِل» هو شعارهم ونداؤهم. حرق المخلفات التي تكدست، تسبب بانفجار أشرطة وتمديدات كهربائية مرات عدة، ثمة سيارة التهمتها النيران بسبب وجودها قريبًا من جبال أكياس المهملات، ومعها قارب أيضًا. كثيرة هي الأشياء التي باتت تذهب بها ألسنة لهب المزابل، ومنها صحة الناس، وربما كراماتهم أيضًا. أصبحت النفايات تتخفى وتتنكر بوجوه وملامح كثيرة، كي تستطيع عبور حواجز قوى الأمن التي ترابط على مداخل بعض المدن والبلدات، لتقبض عليها حين تغير مستقرها، وتحاول أن تجد لها ملجأ بعيدًا عن موطنها الأول. نسي الناس لوهلة، أو نجح السياسيون في إلهائهم عن المشكلة الأصل، وتركوهم يتنازعون على إيجاد أماكن جديدة ينقلون إليها زبالتهم بدل إيجاد سبل لمعالجتها والتخلص منها. ها هم يتخاصمون على أرض بور هنا، وواد منسي هناك يصلح ليكون مكبًا عشوائيًا، تكوم فيه جبال المخلفات. وكأنما القضية هي مسألة خاصة، وقصة عابرة، لا معضلة وطنية شاملة، ونتيجة فساد ونهب وصفقات، دامت سنين طويلة. المزابل باتت قرب المستشفيات والحضانات وأسواق المواد الغذائية. مطحنة كبيرة للدقيق لم تنج هي الأخرى، حتى اعتبر وزير الصحة أنها صارت تجذب جرذان البلد. «كلنا نفايات، من النفايات وإلى النفايات نعود». يقول وليد جنبلاط غامزًا من قناة زملائه السياسيين الذين تواطأوا على إيصال الأمور إلى هذا المنحدر. تعلم المرجعيات السياسية جيدًا، بحسب وزير الصحة وائل أبو فاعور أن «لبنان على شفير كارثة صحية» وأن ترحيل هذا الكم الهائل من المخلفات أو تسفيره للتخلص منه أمر من المستحيلات. مع ذلك فإن التلزيمات الجديدة للتنظيفات، بعد أن انتهى عقد الشركة التي ارتبط اسمها بالسرقات والروائح الكريهة، سيتم البت بها هذا الأسبوع. غضب المواطنين، مهما ارتفعت نبرته، لن يمنع النزاعات حول الحصص والمزيد من الصفقات المشبوهة. السخط عارم صحيح، لكنه ينتهي كالعادة، عند كل كارثة، بكثير من التعليقات، وبعض النكات، والقليل من الأفعال. وحدهم شبان «طلعت ريحتكم»، يتحركون على الأرض، يتظاهرون هنا ويعتصمون هناك، ويربطون مباشرة في خطابهم بين زبالة الشوارع ونفايات السياسة، وبين استمرار طبقة بعينها تحكم البلاد ودوام الحال وتقهقره إلى الأسوأ. كيف لشعب تطمره قاذوراته، أن يجد حلاً طالما أن المتظاهرين المحتجين، لا يتعدون المئات وأحيانا العشرات، يحاولون وحدهم اقتحام السياج الشائك حول مجلس النواب ويتلقون ضربات خراطيم المياه، ومعها الاعتقال. ثمة يأس في النفوس لا يمكن تفسيره، سبات وركود عند المواطنين يصعب فهمه. لماذا الطبقة السياسية اللبنانية فاسدة إلى هذا الحد؟ الجواب في ساحة النجمة، حيث يفترض أن يسمع الشعب صوته لمن انتخبهم، لكن، ها أنت تنظر، ولا تجد أحدًا!

مشاركة :