ماتسو باشو.. رائد الهايكو في رحلة حج صوفية

  • 12/17/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

قصيدة الهايكو إبداع ياباني بامتياز، وبخاصة أن الشاعر يلتزم بإيراد قرينة رمزية، من وحي الطبيعة وكائناتها، تدل على الفصل الذي كتب فيه قصيدته المؤلفة من 17 مقطعاً (5-7-5). وتجدر الإشارة إلى أن اللغة اليابانية مقطعية (حركة وسكون معاً) والنون هيالحرف الوحيد الذي يجمع بين السكون والحركة. وهذا يعني أن النماذج التقليدية التي تحاكي الهايكو في اللغات الأخرى، ومنها العربية، لا يمكن أن تكون هايكو إطلاقاً. ربما كانت ومضة، زاجلة، أهزوجة، أو خاطرة شعرية قصيرة جداً. والشاعر ماتسو باشو (1644-1694) هو رائد قصيدة الهايكو والمعلم الكبير، وقد اكتسب اسم «باشو» من شجرة موز غرسها أحد أصدقائه في حديقة كوخه المتواضع، في مدينة «إدو» التي تحول اسمها إلى طوكيو في عهد الإمبراطور ميجي سنة 1868. وهذا الشاعر أشبه ما يكون بكاهن بوذي يبدع قصيدته التأملية المكثفة كأجمل وأعذب ابتهالة وجدانية في محراب الطبيعة، معجونة بشطحات صوفية كونية، وإن كانت صوفية الزِّنْ البوذية هي السمة الغالبة. ومكانة باشو في العصر الحاضر، كما هي في التراث الياباني، توازي مكانة المتنبي في الذاكرة العربية، وغوته وطاغور ولوركا لدى كل من الألمان والهنود والإسبان، وربما أهم انطلاقاً من خصائص قصيدة الهايكو، بدءاً من ارتباطها بالوجد الصوفي واستلهام الطبيعة، فضلاً عن كثافتها وبنيتها التعبيرية والإيقاعية الفريدة. كتب الشاعر ماتسو باشو أولى قصائده عام 1662، وهو في الثامنة عشرة من عمره. والطريف أنه اختار أسماء فنية متعددة. ولكن «باشو» هو الاسم الأثير الذي اشتهر به، وهو نوع من شجر الموز لا يحمل أي ثمر، وإنما له مغزى رمزي، فالأوراق العريضة الخضراء في هذه الشجرة، سرعان ما تنتزعها الريح وتتساقط، لتوحي برمز يدل على هاجس من الأسى بأن الحياة فرصة قصيرة عابرة. وقبل أن يغادر باشو كوخه، كتب القصيدة التالية وعلقها على عمود الكوخ: حتى الكوخ المسقوف بالقش يمكن أن يؤول إلى مالك جديد ليكون بيتاً للعرائس. ويشير الشاعر هنا إلى مهرجان العرائس، لأن الساكن الجديد، خلافاً لباشو العازب، له أسرة وهم يزينون البيت بمجموعة من الدمى الزاهية، احتفالاً بعيد الفتيات في الثالث من مارس. وفي وداع أصدقائه له عند محطة «سنجو»، نراه يندب شبابه الراحل ويسقط مشاعره على الأسماك والطيور: يا للربيع كيف يمضي! الطيور تنُوح، والأسماك طافحة الأحداق بالدموع. ويمتاز باشو بلغة تأملية مكثفة خاصة به، رقة ونسيجاً وصوراً فنية جمالية، ولا يرقى إلى مستواه الإبداعي أي كاتب آخر من أسلافه، سواء في شعره أو سرده النثري. والطبيعة اليابانية، بدءاً من الجبال -حرم الآلهة في التراث الروحي- إلى شتى الملامح الأخرى، هي الأم الملهمة لكل قصيدة. فالخريف والليل والقمر، والجبال والأنهار، وأشجار الصنوبر والكرز، والأعشاب النضرة أو الذاوية، والسحاب والريح والمطر والثلج والندى، هذه المفردات وعشرات غيرها، تراها تمور في وجدانه ليصوغ منها قصيدته برؤى مدهشة، وبذلك تتحول الكلمات إلى كائنات أثيرية في صورة شعرية ساحرة. وآخر رحلة قام بها الشاعر سيراً على قدميه، بصحبة أحد مريديه، هي «الدرب الضيق إلى أوكو»، أو الدرب الضيق إلى أعماق الشمال، وقد استغرقت 156 يوماً، واشتملت على 44 مرحلة أو محطة للاستراحة، ويقول في مستهلها: الشهور والأيام رحَّالة أبدَ الدهر. والسنون، في مجيئها وذَهابها، تواصل سفرها أيضاً. وأولئك الذين يهدرون سنوات العمر على متون السفن، أو من يشيخون على صهوات جيادهم.. هم رحالة إلى الأبد، وتظل مساكنهم دائماً حيثما يأخذهم الترحال. كثير من كبار السن ماتوا على الدروب. ولكم أثارتني، في السنين الخوالي، رؤية كل سحابة تنساب مع الريح، فأهيم في سبحات فكرية من التجوال لا تتوقف... كان باشو متعلقاً بالشعراء الكهنة الذين سبقوه في هذا الدرب الضيق، وكان يلتمس الراحة ويستقي العزاء من المواقع التي مروا بها أو كتبوا عنها، وهو يحيا بغبطة روحية واستمتاع مع أطياف من ارتادوا مجاهل ذلك الدرب ورحلوا. ولهذا، كان يتفقد المعالم التي أشاروا إليها في أشعارهم، فلا يكتفي بزيارة المعابد، وإنما يسأل ويتحمل مشقة السير إلى تلك الأكواخ المنزوية في أحضان الكهوف، ولا ينسى أن يبحث حتى عن الأشجار التي غرسوها أو جلسوا في ظلها وتغنوا بها في قصائدهم ومذكراتهم. ولدى عبور حاجز «شيراكاوا» كتب: كنت أشعر أن في مقدوري أن أسمع رياح الخريف، وأرى الأوراق القرمزية المذكورة في قصائدهم، وهذا ما منح الأوراق الخضراء على الأفنان أمامي مزيداً من روعة الجمال. وهذا الشغف بطبيعة الشمال الياباني، رغم ما يكتنف صاحبه من عناء وخطر، يسمو في إبداع رحلته إلى فضاء الوجد الصوفي، وهو يواصل المسير والتأمل وتفقد الأمكنة التي يختزن رؤاها وأسماءها في ذاكرته، ولا يدري إن كان سيبلغ نهاية الرحلة بسلامة وأمان، أم أن الموت سيعاجله قبل أن ينجز مهمته. ونواصل المسير مع الشاعر من محطة إلى أخرى، ونعرج معه على كثير من المعالم ذات الأهمية التاريخية والشعرية في الذاكرة اليابانية، ونرى أن سرده النثري لا يقل جمالاً وطلاوة عن شعره، دون أن نغفل عن فتنة الصيغة الاستثنائية المكثفة التي تمتاز بها قصيدة الهايكو. ولاشك في أن معاناة الشاعر في إبداع قصيدته كانت فادحة جداً. ويكفي أن نتذكر أنه لم يكتب سوى بضع وخمسين قصيدة خلال 156 يوماً من السفر المضني والتجوال الدؤوب. وهو سفر مثقل بالمشقة والضنى لأنه قطع نحو 2450 كيلومتراً. وإذا تأملنا في طول مدة الرحلة ومشقاتها للسائر على قدميه، إلا في حالات نادرة، وهو في الخامسة والأربعين، فلابد أن نتساءل عن الدافع الوجداني العميق الذي جعله يقوم بهذه المغامرة، آخذين في الاعتبار أن الظروف في ذلك الزمن كانت مختلفة اختلافاً جذرياً عن القرون الثلاثة التالية، سواء من حيث أحوال الدرب الترابي الموحش الذي سلكه، أو الأخطار المحتملة من وحوش مفترسة وقطاع طرق وعواصف، أو في حالات طارئة كما في الانزلاق والمرض. كان باشو من المعجبين بشاعر كاهن من القرن الثاني عشر، اسمه الكهنوتي سايغيو. ولقد قام بهذه الرحلة محبة بذلك الشاعر الصوفي وإحياء لذكراه، لاسيما أن تاريخ رحلة باشو يصادف الذكرى المئوية الخامسة لوفاة سلفه. وإذا تذكرنا أن الشاعر لم يعش بعد هذه الرحلة إلا خمس سنوات، فلابد أن ندرك أنه كان يستشعر نداء الأبدية، فآثر أن يقوم برحلة الحج هذه ليلتقي بأطياف من سبقوه في استكشاف درب أوكو ومعاناة أيامه ولياليه. ويمر في طريقه بشجرة كستناء كان يعيش في ظلها كاهن، فيكتب: لا أحد من الناس في الدنيا استهوته تلك الأزهار إنها كستناء بجوار الأفاريز. والسر الصوفي في كلمة (كستناء) أن شكلها في الكتابة الصينية واليابانية يجمع بين الشجرة والغرب، إشارة إلى فردوس بوذا. وإلى جانب أهمية الشاعر ورقّة شعره، لا يمكن أن ننسى روعة الرسوم التي استلهمها الفنان مِياتا (ماسايوكي) من خلال استغراقه في قراءة الرحلة بوجد صوفي. إنها تجربة فنية مدهشة، وإبداع جمالي لا يقل روعة عن نثر باشو وشعره. والفنان يدرك أهمية عمله ويشير في مذكراته إلى الجهد الكبير الذي بذله لالتقاط السر الوجداني الذي كان يشعر به الشاعر وهو يتأمل الأماكن التي يعبرها، ولا يملك إلا أن يستدعي ذكريات من سبقوه ويناجي أطيافهم. واللافت أن باشو لم يستكمل كتابة رحلته هذه، إلا بعد عودته بنحو خمس سنوات. ومن المؤكد أنه أعاد النظر في كتابتها مرات عديدة، قبل أن يصل بها إلى الصيغة النهائية. يقول الشاعر في أشهر قصائده: يا لها من بركة عتيقة ضفدع يقفز فيها صوت الماء. هذه القصيدة منشورة في أكثر من معجم ياباني. والبركة ترمز إلى الكون، والضفدع أي كائن حي، أما صوت الارتطام بالماء، فهو كل ما يتبقى منا في هذا العالم بعد الرحيل. وكما بدأ الشاعر رحلته مع الربيع، ختمها مع الخريف: مشطوراً كصدفة المحارة أغادر متجهاً إلى فوتامي وها هو الخريف يرحل على عجل.

مشاركة :