يسرف البعض في تداول مصطلح الحرية الذي لم يتحرر فيما يبدو في أذهان نماذج من المثقفين، وتتنادى أصوات من هنا وهناك مطالبة بالمزيد من الحريات، علماً أن الدول بكل هيبتها ومؤسساتها وسلطتها ليست حرة حرية مطلقة. فالحرية نسبية. وتعرضت (الحرية) وتتعرض في العالم لسوء توظيف من الحزبيين، حدّ ظن كُتّاب أن الكتابة التي لا تتطاول على الثوابت ليست إبداعاً، بينما يرى الموضوعيون أن الأدب المتطاول على قيم المجتمع يخرج عن غاياته ويتحول إلى لغو وهذيان وأحياناً وقاحة كتابية، وهنا نستعرض مفهوم الحرية وتجلياتها على الإبداع من خلال عدد من المفكرين والنقاد العرب.البليهي: لا توجد حرية مطلقةإبراهيم البليهي، يرى أنه لا توجد حرية مطلقة بل إن فكرة الحرية تتأسس على وجود ضدها. الكثيرون حين يتحدثون عن الحرية تكون الحرية السلوكية هي المقصودة. وهذه الحرية هي أدنى تجليات الحرية. الحرية الحقيقية هي التحرر من البرمجة التلقائية التي تختطف قابليات كل الأفراد في كل الأمم، ثم تبقى تتحكم بهم مهما كانت الحريات متاحة. المعضلة البشرية الحقيقية المستعصية هي ختمية تطبع جميع الأفراد في طفولتهم بأنساق ثقافية أغلبها لم يخضع لأية مراجعة، حيث تستمر الأمم تتوارث أنساقا ثقافية تكوَّنت تلقائيا خلال أحقاب طويلة.ويقول الباحث محمد محفوظ، إن مفهوم الحرية لم يتحرر في أذهان وقبليات بعض المثقفين. ما يجعل الخلط بين مفهوم الحرية ومفهوم التحرر قائماً. ويرى أن الحرية اللازمة للإبداع نابعة من داخل الإنسان وتؤسس للقيم الضرورية للحرية مثل الكرامة. مؤكداً أنه دون القيم تغدو الحرية مجموعة ألفاظ لا تتعدى ذلك. وعدّ محفوظ الحرية ملازمة لكل نقائضها السلوكية. ما يفرض انعتاق الحرية من لوازمها غير الضرورية لنتمكن من إبراز بركات الحرية وخيراتها.ويذهب الناقد الدكتور وحيد موافي إلى أن معنى الحرية الذي يتنادى بها ما يسمى بالغرب وأقصد أوروبا وأمريكا، لا أساس له في الوجود، كونها خرافة، ابتدعها هؤلاء القوم، وهم يعلمون أن لا أساس لها في أدبياتهم، وإن وجدت فهي العصا الغليظة التي ترفع في وجه من يتجاوز الخط الأحمر أينما حل أو ذهب، مشيراً إلى أنه تم توظيف هذه الخرافة وفق ما يحدث في عالم الأساطير القديمة. وعد المثقف الحقيقي متسماً باتزان معرفي، متجذر، أصيل، ومجاف للهوى، وحريته متوافقة مع مبادئه العربية الأصيلة التي خرجت من رحم إسلامنا الحنيف القويم، ومرتبطة بالأهداف السامية كونيا، وبالأنسنة. ودوره حماية الإنسان والأوطان والطبيعة من شرور المفسدين.فيما يؤكد الملحق الثقافي السعودي سابقاً الدكتور عبدالله سالم الزهراني، أن الحرية مصطلح فضفاض، يدغدغ مشاعر كل إنسان ويود أن يكون مطبقاً في المكان الذي يعيش فيه. علماً أنه لا حرية مطلقة وإنما هناك حرية نسبية تؤثر في ارتفاع سقف الحرية أو انخفاضه في ظل ارتهانه لمنظومة مجتمعية منها الديمقراطية الحقة والعادات والتقاليد التي قد يغشاها عنصر العيب والمعتقد في العديد من الدول، إذ يعد معياراً من معايير التعامل مع الحرية. وأضاف: الحرية لا تعني التحرر من القيم أو إلغاء المبادئ التي يجمع عليها النسبة الكبيرة من المجتمع.ويذهب الأكاديمي الدكتور أحمد السعدي إلى أن الحرية ليست مفردة في معجم لغوي، أو مطلباً شعبوياً، أو فكرة يمكن أن تتحول إلى قصيدة في ليلة استوائية على حد وصف الراحل (غازي القصيبي)، بل هي قيمة إنسانية، نسبية ومرحلية، تتطلب سياقاً يفسرها، وقانوناً ينظمها، ومؤسسات مدنية تضمنها. ويؤكد أن صور الحرية خصوصاً عند الأدباء والنقاد، قريبة من مفهوم الجمال كما عبر عنه (جبران خليل جبران)؛ نبحث فيه عن حاجاتنا أكثر مما نصف طبيعته.ويضرب السعدي أمثلة للحرية باعتبار تجلياتها، فهي عند محمود درويش مقاومة وإثبات وجود، (حريتي أن أكون كما لا يريدون لي أن أكون)، ولدى حمزة شحاتة قيمة منفكة عن المصلحة، لما ربط الكرم بها بعيداً عن التقليد الجماعي، الهادف إلى المحافظة على السمعة، في محاضرته الشهيرة (الرجولة عماد الخلق الفاضل). وأضاف، أن الحرية في نظر النقاد ملونة بألوان مرجعياتهم ورؤاهم، فيراها الرومانسيون انعتاقاً من قواعد العقل والمحاكاة، والواقعيون يرونها تنكراً للذوات وانكساراتها، بينما هي عند الشعريين، ومنهم ميخائيل باختين، تمثل التعددية التي يسمح فيها الروائي بأن يدع لكل شخصية من شخصياته الحرية في التعبير الملائم لوضعه الاجتماعي.ويتحفظ الكاتب وحيد الغامدي على تعريف الحريّة؛ كونها مفهوما سائلا ومتحركا، ويتخذ في كل مرحلة زمنية، أو في كل مكان جغرافي الحدود الخاصة التي تؤطر مفاهيم وقيم تلك الحرية. ويُستبطن بحسب الظرف الزماني والمكاني، ثم يكون الانطلاق من خلاله. ويرى فجوة بين المصطلح ومفهومه، رغم أننا نناقش الحرية وكأننا اتفقنا على حدودها وتضاريسها، في حين أن ذلك يستحيل سوى بشكل مؤقت لن يصمد في مراحل أو أماكن أخرى بحكم اختلاف التضاريس المفاهيمية حتماً حينها، ما يستلزم تباين الحدود الدلالية لتلك الحرية.ويؤكد الغامدي، أن الثابت في مفهوم الحرية أنها مهما كانت انعكاساً لتطور المجتمع لا يمكن أن يكون سقفها المفاهيمي بلا حدود، كون الملاحظ أنه كلما تقدمت حركة المجتمع في سننية التطور، تقلصت حرية الفرد في مستويات عدة، أبعد وأهم من المستوى البسيط في مفهوم الحرية الفردية الدارجة التي ارتبطت ذهنياً بمفاهيم محددة كلما نوقشت مسألة الحرية. وعد النمط المعيشي المعتمد على الوظيفة مثلاً، وإنْ كان مظهراً من مظاهر الحياة المدنيّة المتطورة، إلا أنها تعني المزيد من القيود الثقيلة على الفرد من خلال هذه النافذة المعيشية التي تطورت عن النمط المعيشي البدائي الأكثر تحرراً في ما مضى.وأضاف: يمكن أن ينسحب هذا القياس على العديد من المستويات المتعلقة بالدلالة الاصطلاحية للحرية. إلا أنها مفهوم متبدّل يجري توسيعه أو تضييقه بحسب الحركة الكبرى للمحيط الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي، والظروف المفروضة على ذلك المحيط الذي سيفرضها بدوره على كامل حدود تلك الحرية. ويؤكد أن المأمول والمثالي في مسألة الحرية محكومٌ بتفاصيل واقع مستمر في حركته، ما يتعذر معه تجميد الحدود المفاهيمية للحرية على شكل ثابت.< Previous PageNext Page >
مشاركة :