الكتابة لديه ليست بالحرف، ولكن بالصورة، تسحرنا طريقة اختياره للألوان، وكأنه الخياط الذي يبرز لنا جمال تلك الأجساد وحلاوة تلك الروح، من يختاره قلمه للكتابة عنه كأنه سقط من السماء وتلقته يد القدر، لتلفت الأنظار إليه، محمد محمد مستجاب، الهارب من تاريخ الأب لصناعة عالمه الخاص، كان يحمل في كيسه بعض الأشياء التي سوف تصنع منه نجماً أولها الحنين لماض جميل، ثم الثقافة التي ساهم فيها أبوه بشكل كبير، فطورها هو، باختلاف الرؤيا والزمن والتجربة، لم تأت له الجوائز وهو جالس ، لا... كان يحفر الأرض بأظفاره باحثاً عن نفسه ، ولم يدم ذلك طويلاً ليعرف أنه خلق كاتباً حتى لو كان يحلم بالسينما والتمثيل ، يحكي لنا اليوم قصة البداية والتكوين ... * من لا يعرف آل مستجاب، كيف تحكي له قصة الأب الذي عمل بالسد العالي ثم ترك السد إلى الثقافة والأدب؟ وكيف ورث الابن ذلك؟ وهل الثقافة تورث؟ ربما يكون السؤال الأول هو ما أعمل عليه الآن، فللأسف الشديد لم يكتب مستجاب الأب رواية كاملة عن السد، ظلت مشروعا مؤجلا بسبب ظروف الحياة، وبالتالي تناثرت حكاياته في الكثير من المقالات والحكايات التي كان يكتبها في معظم المجلات والجرائد العربية، ومنذ فترة أعمل على رواية عن السد، من خلال تجربة أبي، وبالنسبة للسد العالي لا يزال الكثيرون لم يعرفوا عنه إلا القشور، حالة الانسان أو العامل وكيف أن هذا السد ليس ملك فترة زمنية أو شخص بعينه، بل هو ملك للإنسان المصري البسيط الذي شعر بالفخر من هذا الإنجاز، وبالنسبة لحياة مستجاب يمكن أن نقول إن حجر الزاوية في تجربته الحياتية والأدبية هي عمله في السد العالي، إننا سنجد شخص آخر غير هذا الإنسان أو الفلاح الذي كان يبدو لي شاردا على أن وصل للسد، وفي السد بدأ التشكيل الحقيقي لمحمد مستجاب، حياة العمال وأفكارهم وتصرفاتهم، أصقلت تجربة مستجاب بقوة، كما ساهمت في تشكيل حياته على المستوى الإبداعي من خلال لقائه بالكثير من الكتّاب والمبدعين في السد العالي، لا يزال السد العالي منطقة جذب أو بئرا غامضة للكتابة العربية، وبخصوص الشق الثاني من السؤال، هو أن منطقة السد العالي كانت زاخرة بالمبدعين، وبالتالي عند قرب نهاية العمل في السد وقد حدث في إداراته الكثير من الشروخ بعد رحيل الزعيم جمال عبد الناصر بين مؤيد للفترة الناصرية ونشأة النظام الساداتي، فإن مستجاب والدي كان قد بدأ في نشر أولى قصصه قد التقى بالمفكر والكاتب الكبير ثروت عكاشة، والذي نقله لوزارة الثقافة ومنه لمجمع اللغة العربية. لتبدأ مرحلة جديدة على مستجاب الأب في تهذيب كل تجربته لتوجيهها للإبداع. كيف ورث الابن الأب، وهل الثقافة تورث؟ سؤال يظل يطاردني، ربما لبروز تجربتي عن كثير من أبناء الكتاب، فكثير من أبناء الكتاب والشعراء حاولوا الكتابة ونحجوا وبعضهم فشلوا، لكن من استمر أو من امتهن مهنة الكتابة نادرون، وهذه هي المشكلة، فقد تركت كل شيء من أجل الكتابة، وفي البداية كنت أحاول تكرار كلمات وجمل مستجاب، قبل العثور على طريق يختص بي، وهذا ظلمني كثيرا للدخول في أفكار الكثير في مقارنة مع مستجاب، مستجاب له تجربته شديدة الخصوصية وله لغته والتي صعب تكرارها، لكن مستجاب كان له مشروعات لم تكمل وأنا أحاول إكمالها، الثقافة لا تورث بالطبع، لكن الموهبة هي السبب، ولا أستطيع أن أقول أنني موهوب وهذا غير موهوب، القارى أو الناقد أو الزمن هو من يستطيع أن يقول ذلك، أنا أحاول أن أجتهد بأن أصبح وريث محمد مستجاب كما كان يناديني علي «الوريث». * براعتك في الكتابة واستنطاق حتى الأشياء الصامتة والجامدة كما في كتابك «دقة قديمة» يدل على أن عيونك كانت مفتوحة منذ وقت طويل؟ متى كانت البداية تحكي لنا قصة التكوين الأول؟ في الحقيقة لا أعرف ذلك، لكن ذكرياتي كثيرة من الأشياء، ولم أفهم في البداية السبب في الحنين لذلك سواء أماكن أو أشياء أو حتى قطعة ملابس، لكن في رؤيتي لتجربة مستجاب فهمت أن تلك الأشياء ليست جمادا بل هي حملت الكثير من حياتنا معها أو تفاعلت معنا وبالتالي أستطيع أن أقف في أي مكان وأحكي لك قصته، او هذا الحذاء الذي كنت منبهرا به كي أشتريه أو أحصل عليه، أو كيف لعبت به أو كيف سرق من على باب المسجد، هذه حكايات لم أكن أفهم أنها مخزوني للكتابة، وبالتالي عندما طرحت فكرة البيت العربي لمجلة العربي الكويتية رحلوا بتلك الكتابة، لكن الأساس يظل لمستجاب في واحته الشهيرة «زاحة العربي» بنفس المجلة؟ فحتى الآن عندما يسير معي شخص، تجدني أظل أحكي له عن هذا البناء من كان يسكن فيه أو تلك السيارة أو هذا الكوب مثلاً أو تلك الشجرة، هي جزء لم أنتبه له إلا بعد احترافي للكتابة. الآن مثلا أنا أرتدي جلبابا لأبي، لا أعرف لماذا ربما حنين له، لكن يمكن لك أن أخبرك بتاريخها وبثقب فيها لا يزال تسببت فيه سيجارة.. * القصة، الرواية ، المسرح ،السيناريو، النقد. هي قوالب الكتابة وكلها برع فيها محمد مستجاب وحصل على جوائز أيضاً لو سألناك أين سيكمل مستجاب مشوار الكتابة وما هي تأثير الجوائز عليك؟ فكرة أي المجالات التي أكمل فيها. في البداية يجب أن تعلم أنني ذهبت للكتابة أو هي من قامت بالنداء علي، فأيام الجامعة كنت أحلم بأن أصبح ممثل، ولكني فشلت في أختبارات معهد الفنون المسرحية؟، وهذا صدمني بشدة، فالكتابة جاءت نجاة لي من التشتت، ثم أن رزقي يأتي من الكتابة لذا يجب أن أراعيها وأهتم بها، فالكتاية تحب من يحبها وتعطي لك كل شيء، في البداية كنت من عشاق كتابة السيناريو، لكن هذا تأخر أو تأجل لمشروعات، وسيطر علي المقال والقصة من أجل أكل العيش، لكن عندما تأتي فكرة فأن الأسلوب في تناولها هو ما يفرضها علي سواء قصة أو مسرح أو سيناريو. بالنسبة للجوائز لقد ذهبت لها من أجل إثبات أنني هنا، أو الهروب من عباءة مستجاب الأب، فالجوائز كانت عبارة عن مكافأة أو طبطبة علي، لأن كثيرين رفضوني من باب أنني ابن مستجاب أو أقلده، والجوائز منحتني عكس ذلك، فالجائزة لا تنظر للاسم على الأقل وبالتالي كانت تبهجني عندما أحصل على أحدها، كما أنني كتبت في مجالات كثيرة ومتعددة سواء للطفل أو المسرح أو السيناريو من أجل الهروب من عباءة مستجاب الأب، ثم أن الجوائز تنير لك طريقك وتدل عليك، بمعنى أن بعض الجوائز تساهم في جذب قارئ لك وفي رؤية العالم لك أو طرح اسمك بالطريقة اللائقة والمناسبة. * كتبت مقالات جميلة عن نجوم ونجمات السينما زمان هل كان الدافع الحنين لهؤلاء النجوم أم الحسرة على دراما هذه الأيام؟ وهل تراجع الدراما المصرية اليوم يعود بسبب فقدنا النجوم أو النصوص أو التفرد بالبطولة؟ المقالات عن النجوم أكتبها من باب الذكريات – أي رؤية الطفل الصغير لهؤلاء النجوم وتلك الأعمال، كما أنني أعتقد أن جيلي هو آخر الأجيال التي تعلم شيئاً عن هؤلاء، بعلمي أنه بعد مائة عام إذا وضعت صورة لأحد الاعلام وقلت من هذا، فلن تجد أحد يتذكره، وهذا مرعب أن يتم اللعب في ذاكرة أمه أو أعلامها أو رموزها كما يحدث الآن من طغيان على كل الأشياء، كما أنني أحب أن أرد الجميل لكل من ساهم في تكويني وهؤلاء النجوم ساهموا في تكويني وتكون أمة كاملة، وأنا أحب الكتابة عنهم من باب المحبة، فأحيانا كثيرة تطلب مني مجلة الكتابة عن شخص ما، لكني لا أعرف لأنه لم يضف لي، أو لم أشعر به، أو ترك معي ذكرى أو رأيته من زاوية لم يرها أحد من قبل، وبالتالي أفشل في كتابة بورترية عنه، وهذه أحدى المشكلات لدي، فربما أجلس أكتب عن بائع في الشارع، بمحبة كما رأيته، ولا أستطيع ذلك مع مخرج كبير لم أشعر مع أعماله كما شعرت مع هذا البائع. بالطبع النص هو الأساس فيما يحدث في الدراما المصرية، فلم أستطيع أن أتجاوب مع المخرج النجم أو النجم الأوحد وهذا عطل لي مشروعات كثيرة، وجعل أفكار كثيرة تسرق مني، وبالتالي سنجد أن في تلك الأيام مهرجان القاهرة الدولي ولن تجد أعمال مصرية ترتقي لتقديمها في المهرجان وبالتالي أصبح المهرجان فارغ، مجرد صور تلتقط لبعض النجوم، وكفى وهذا لم يحدث مع مهرجانات عالمية، لأن أساس صناعة السينما هو الورق وبالتالي الأفكار، ونحن اكتفينا بظهور النجم على حساب كل الأشياء الأخرى، لذا نرى ما نراه الآن من عقم فني أو استنساخ فني مشوه. * نقرأ عن أعمال أدبية للطفل مسرحية أو قصصية فازت بجوائز عربية أو محلية لكن لا نرى أعمال مسرحية أو درامية توازي ذلك النجاح ؟ لماذا ؟ وأين الخلل ؟ الطفل العربي مظلوم جدا جدا؟، وجاءت التكنولوجيا ففزادت من الفجوة بين الأجيال أو طرق التعبير للطفل، لأن الصورة أصبحت هي المسيطرة بشدة، وبالتالي نتعامل مع الطفل وأدبه على أنه أدب الدرجة الثانية وهذا كارثة عظمى، كما أننا وقعنا – كأمة عربية – في الفرق بين الكتابة للطفل والكتابة عن الطفل، والجميع يكتب له من باب أنه سهل أو من باب بحكي حكاية، وهذا زاد الكارثة وما نراه، فالأعمال الجيدة التي تحصل على جوائز تظل حبيسه الأدراج، أو لا نرى لها الوسيلة الحقيقة للتعبير، فلدينا في مصر كان يوجد قناة للطفل وتم أغلاقها، وقناة ماجد نجدها ممتلئة بوسائل الأفلام الغربية، والمسرح لدينا يظل يتحدث عن أفكار مثل الانتماء أو الثورة وهي أفكار بعيدة عما ذهب له الطفل، الطفل سبق ذلك من خلال الصورة وبالتالي يوجد فجوة ضخمة لدينا والكارثة سوف تصبح بعد عدة سنوات لأن اللغة التي يتحدث بها طفل اليوم، غير التي نريد أن نخاطبه بها، أو نتقرب له من خلالها، والخلل الأساسي أن الدولة رفعت يديها عن الطفل وتركت الموضوع للشعارات أو للمباني الجوفاء كما سقطت المدرسة أما م التعليم عن بعد، فنحن لا نستطيع أن نفكر أن كثير من المهن معرضة للانقراض مثلا، مثل المدرس أو المحاسب أمام التكنولوجيا، ولم تطرح الأفكار العربية هذا أو حتى حاولت التقارب معها، الطفل العربي في أزمة ونحن سبب هذه الأزمة للأسف!! * في هذا العالم لا أحد يستيقظ قبل أمي، الدعوات والتسبيحات تغلف عنق فجر اليوم. أستعير هذا المقطع من مجموعتك القصصية «عتبات سلم قديم» لأسئلك عن أمك ودورها في هذا النجاح الذي حققته اليوم ؟ وهل كانت متعلمة؟ أمي العظيمة.. وهي زوجة محمد مستجاب الأب، لم أر امراة مثلها في صبرها وكفاحها اليومي وعدم تزمرها، وهي لم تكن متعلمة مطلقا – هي ست بيت – ولم أنتبه لها إلا مؤخرا، فالمعون الأساسي كان في جدتي – أم أبي – كانت حكاءة ماهرة – ويمكن لها بكلمة واحدة أن تفتح لك كثير من الأبواب والأفكار المغلقة، لكن بعد رحيل أبي وجدتي، زهرت لي أمي وفهمت دورها في حياتي وبالتالي فإن مجموعتي القصصية الأخيرة كثير من القصص قائمة على جمل أو تعبيرات لأمي، حتى أنني كتبت عدة مقالات تحت عنوان «الأمومة» فيكفي أن تعلم أن أمي تمتلك عشرة أصابع في يديها مثل أي أم، لكن هذه العشرة أصابع كيف تتحول لعشرة جيوش، فهذا ما تمتلكه امي بمفردها. «لم يكن أهل القرية قادرين على طرد الخوف من نفوسهم ، أشعلوا البخور ونظفوا البيوت ورشوا الحواري والأزقة بالدقيق والملح فجراً ، ووضعوا أسفل وسائدهم الأحجبة والتمائم ، وصلوا ورفعوا كفوفهم بالدعاء والابتهال ، والخوف مسيطر لا يتحرك ، فتركوا أمرهم إلى رب الكون». * هو مقطع من روايتك «قمر تعابثه بنات الحور» التي فازت بجائزة توفيق بكار للرواية في تونس ، سؤالي هو هل الخوف مرض خبيث لهذه الدرجة لا يمكن الخلاص منه ؟ ومن ساهم في زراعته ؟ وهل الأمثال التي نتداولها عن كبار السن كان لها دور ؟ مثل الصمت حكمة.؟ أولا التفكير المغاير أخذته عن طريق والدي، فليس من يأتي لك بالشكوى لجذبك لصفه أو الصادق، وأي مسألة يجب أن نفكر ونحللها بعيدا عن العواطف، ونحن شعوب عاطفية جدا، وهذه إشكاليه أخرى، فمثلا لم ننظر للفقر على أنه أحد مقومات الحضارة أو النجاح، بمعنى أن الفقر للخروج منه ساعد الإنسانية فيما وصلت له من تقدم ورخاء، الفقر هنا ليس من منظور واحد، فمثلا وباء أو مرض معين يساهم في البحث عن علاج له وبالتالي تطور كثير من المجالات، وهنا نأتي للخوف، فبينما شعوب قفزت فوق الفقر أو اخذته وسيلة للرخاء، متجنبة الخوف لأنه يعيق، سقطنا نحن في هذا الخوف، وبالتالي صدقناه بشدة، في أسلوب الحياة والأمثال الشعبية وتصرفاتنا اليومية، وبالتالي جاءت لنا تلك الأنظمة التي نراها الآن، فالخوف لم نعبره بل عشنا به، ولم نفهم أنه مرحلة وتنتهي لنصل للشجاعة، أو لنصل لتحقيق أحلامنا، من صنع الخوف، هذا إرث حضاري كبير سنجده كثيرا في كتب التاريخ، وسنجد ما لا نستطيع تفسيره من صمت الناس في مواقف معينه أو كيف تجبر حكام بهذا الشكل وبتلك الأفعال، وإذا كان هذا موجود في جميع الأمم، لكن كثير من الأمم نفضت الخوف وبدأت الطريق، وفكرة السير في طريق وأنت تصاحب الخوف لن تصل بك لأي شيء، فالإنسان لم يعد لديه ما يخسره الآن وبالتالي فأن مجتمعات ودول استطاعت أن تهزم هذا أنظر لألمانيا وتقدمها واليابان والصين أيضا رغم أن بها حكم شمولي ديكتاتوري لكنها تركت الخوف وبدأت في فهم الإنسانية وما تسطيع أن تقدمه لها، فلم يعد الآن الصمت حكمة كما تعلمنا بل الصمت كارثة؟ * أين يجد أدب الطفل موقعه اليوم في ظل الفضاء المعرفي الفتوح الذي يعيشه الطفل؟ أدب الطفل دائما في المقدمة، لكن إلقاء الضوء عليه هو المشكلة، فقد عالج أدب الطفل الكثير من مشكلات الطفل وطرح حلول، لكن وسيلة التعبير عنه هي الوسيلة العاجزة لدينا، وطبعا التكنولوجيا ساهمت في هذا، لأن كثير من كتابنا يكتبون لطفل يعيش في ستينيات القرن الماضي، وهذه أزمة، أو يحاول تقليد الغرب وهذه أزمة أخرى، لكننا قدمنا أفكار مغايرة لطفل اليوم، لكنها ظلت أفكار على الورق فقط ولم تخرج حتى الآن وهنا أزمة شديدة يجب أن تنتبه لها الدول ومؤسساتها، فالحكاية ليست كتابة أو أفكار فقط بل هي صناعة لنشأة طفل يستطيع أن يواكب ما يحدث الآن على جميع المستويات وتنمية هذا تحتاج إلى تعاون من جميع الأطراف: الكاتب والدولة والمؤسسات والأعلام».
مشاركة :