قرأت أكثر من مرة المقابلة المهمة التي أجراها صديقنا نظير مجلي مع الجنرال بيني غانتس لـ«الشرق الأوسط».وحين أقرأ مقابلة موسعة مع شخصية بوزن رأس المؤسسة العسكرية والأمنية في إسرائيل، إضافة إلى كونه شريكاً بالمناصفة مع نتنياهو في التركيبة الحكومية، وإضافة كذلك إلى احتمال أن يصبح بعد شهور رئيساً للوزراء إذا ما تغلب على الإشكالات القائمة بينه وبين شريكه نتنياهو... حين أقرأ مقابلة كهذه فمن البدهي أن أفتش عن الجديد فيما يتصل بالموقف من القضية الفلسطينية ورؤية سياسي رفيع لمعالجتها.ملاحظتي الأولى أن الجنرال غانتس تحدث بلغة تختلف كثيراً عن لغة شريكه تجاه الجانب الفلسطيني.. لغة فيها احترام ظاهر واستعداد للتفاوض على جدول أعمال مفتوح لا توجد فيه أبواب مغلقة بصورة نهائية... مهمٌّ قوله إن السلام لن يكتمل إلا مع الفلسطينيين، ومهمٌّ كذلك نفيه فكرة الضم ومساحاتها، وترك الباب موارباً في الحديث عن القدس مع عدم إغلاقه بشأن الدولة الفلسطينية، كل ذلك فيه إيجابي وجديد إذا ما نظرنا إليه من زاوية لغة الأغلبية في إسرائيل الذين تسابقوا على انتقاد أقوال غانتس وإدانتها جملةً وتفصيلاً.ولكي يكون التقييم أكثر واقعية فلا بد من التدقيق ليس في الكلام وصياغاته وإنما في الإمكانيات التي تجعل الكلام سياسة.السؤال الأهم هنا: هل بوسع غانتس حتى لو صار رئيساً لوزراء إسرائيل بالتناوب مع نتنياهو أن يحوّل آراءه إلى سياسة رسمية أو إلى أساس تفاوضي تلتزم به الحكومة؟لكي نصل هنا إلى إجابة صحيحة لا بد من مراقبة تفصيلية لتطورات الوضع الداخلي في إسرائيل ورؤية إلى أي اتجاه يسير، فإن عَبَرت شراكة غانتس - نتنياهو حاجز الانتخابات وبقي التناوب قائماً وفق الاتفاق المبرم بين طرفيه فإن لدى نتنياهو، حتى لو لم يكن رئيساً للوزراء، قدرةً على تعويم أفكار غانتس وتهميشها، برفعها عن جدول أعمال الحكومة «وللساحر» مخارج كثيرة لإبعاد مبدأ التسوية مع الفلسطينيين عن الأجندة ولو من خلال مواصلة اعتبار مبادرة ترمب وخرائطه هي الأساس التفاوضي الإسرائيلي.إن نتنياهو، حتى بعد ذهاب ترمب، يرى أن صفقته وخرائطه كنز لإسرائيل لا يصح تبديده، أما إذا حصلت الانتخابات الرابعة والاستطلاعات تشير إلى احتمال الإطاحة بالمرن غانتس والمتشدد نتنياهو فبدلاؤهما إنْ لم يكونوا نسخةً طبق الأصل عن نتنياهو فهم أكثر يمينية وتشدداً منه، وحينئذ تُودَع أقوال غانتس في ذات المكان الذي أودعت فيه أقوال شمعون بيريز ورابين وشلومو بنعامي وأمنون شاحاك وغيرهم من أقطاب لعبة السلام الأولية مع الفلسطينيين.مهمٌّ ما قاله غانتس لـ«الشرق الأوسط»، فهو يقوّي حُجة الفلسطينيين أنْ لا سلام من دونهم، وهذا مفيد جداً لهم في الوقت الراهن، ومهمٌّ كذلك قوله إنه بالإمكان إيجاد حل لقضية القدس غير إغلاقها المطلق، وسيقول الفلسطينيون إنهم يقبلون بحل يكون الجزء الذي احتُلّ في عام 1967 من مدينة القدس هو عاصمتهم، ومهمٌّ كذلك حديثه عن دولة فلسطينية متواصلة مترابطة، إلا أن الأهم هو ما هي أرض هذه الدولة ومساحتها وواقعية استقلالها، وسيصر الفلسطينيون على أنها أيضاً هي تلك التي احتُلّت في عام 1967.أخيرا... إن حديث غانتس لـ«الشرق الأوسط» تميّز بوضوح المبتدأ وغموض الخبر، وهذا ما تعانيه عادةً قضية التسوية الفلسطينية الإسرائيلية.في مرحلة البدايات كان الوعد بأن تتحول الضفة وغزة إلى سنغافورة في الشرق الأوسط جراء عملية أوسلو وما نشرته من تفاؤل وصل إلى حد اليقين بحل دائم وعادل للقضية الفلسطينية، أما الآن فقارنوا إن أحببتم.
مشاركة :