خطاب المبتدأ وغياب الخبر

  • 9/28/2022
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

رغم الجدل الذي أحدثه خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة مساء الثالث والعشرين من سبتمبر (أيلول)، فإن الخطاب وبلا شك شخّص إلى حد بعيد مسار مظلومية الشعب الفلسطيني بدءاً من نكبة عام 1948، مروراً باحتلال عام 1967، وما ارتكبته قوات الاحتلال الإسرائيلي من جرائم مستمرة ضد الأبرياء وأرضهم وممتلكاتهم ومصادر رزقهم وحقهم في الحياة الآمنة حتى يومنا هذا. لقد فرد الرئيس الجزء الأعظم من خطابه لبكائيات دأب على ترديدها منذ عام 2012، حيث تم اختزال السياسة والدبلوماسية الفلسطينية «الأيلولية» بخطاب مظلومية البكائيات المحقة في مرافعة كانت ربما الأقوى هذه المرة، بأن إسرائيل التي ألغت بجرافات الاستيطان واقتحامات المدن اتفاق أوسلو، وهي تصادر أمله الوحيد في تسوية تفاوضية على حل الدولتين، محملاً هذه المرة بالإضافة لإسرائيل، كلاً من الولايات المتحدة وبريطانيا، وصمت دول أوروبا، المسؤولية عن استمرار هذه المعاناة منذ وعد بلفور والنكبة، واستمرار هذه الجرائم بتوفير الحماية لسياسات إسرائيل ضد رغبة الفلسطينيين في السلام. هذه المرافعة التي أحيت، بعد أكبر عملية نصب سياسي من قبل حكومة الاحتلال خلال مسيرة أوسلو، مدى معاناة الخمسة عشر مليون فلسطيني أمام العالم، الذين يرزح منهم خمسة ملايين إنسان تحت قبضة الحكم العسكري الإسرائيلي، وحوالي مليوني فلسطيني تحت القوانين العنصرية في إسرائيل، والباقون اقتلعوا من بيوتهم وشردوا في كل أصقاع الأرض، يعانون قسوة اللجوء والتهجير. إلا أن هذه التغريبة الفلسطينية التي حاول الرئيس عباس ملامستها، خلت من رواية الصمود والمقاومة الباسلة التي شكلت الوجه الآخر للهجمة الصهيونية، وعكست عناد شعب فلسطين وإصراره الأسطوري على البقاء والتمسك بأرض الآباء والأجداد، ومقاومة هذه الهجمة بأطول ثورة في العصر الحديث وأعظم انتفاضة شعبية كبرى خاضتها الشعوب التي ناضلت من أجل حريتها واستقلالها. فهل كان عدم التوقف أمام هذه المسيرة وتضحياتها الكبرى مجرد صدفة؟ أم هي إشارة من الرئيس عباس بأن خذلان صناع القرار الدولي لحقوق الشعب الفلسطيني وإرادته بالحرية والسلام، لن يفضي باستحضار مثل هذه الخيارات، التي بدونها ما كان الرئيس نفسه قد تمكن من الجلوس في حديقة البيت الأبيض للتوقيع على «أوسلو»، الذي نعاه «شهيداً» على يد حكومات إسرائيل المتعاقبة، بعد أن ضمنت إغراق الفلسطينيين في عتمة الانقسام، وعزل قيادته عن عمقها وحاضنتها الشعبية وعن خياراتها الكفاحية. لقد تجاهل الرئيس أي إشارة لحالة الانقسام، ومخاطرها على مستقبل القضية الفلسطينية، وأثرها على ما يسمى حل الدولتين ذاته، رغم أنه يدرك أن نقطة مواجهة كل تلك المظلومية والتصدي لبكائياتها تبدأ من تحمل القيادة لمسؤولياتها عن فشل مسار خيارها التي ظلت تعتبره وحيداً، حد التفريط في وحدة الشعب ومكانة المنظمة الائتلافية، واستبدال استراتيجية قلة الحيلة بها، وترديد شروط ما يسمى الرباعية الدولية، التي لم تعد قائمة لا هي ولا شروطها، وانتظار «حوليات أيلول» لخطابات خالية من دسم الفعل، ولا يبنى عليها سياسات أو خطط ملموسة، وربما ينتهي مفعولها قبل مغادرة قاعة الجمعية العامة، التي للأسف منذ خمسة عشر عاماً يتزايد عدد المقاعد الشاغرة أثناء خطاب فلسطين فيها. ‏ مرة تلو الأخرى نقول: «إن طريق الخلاص من هذه المظلومية يبدأ من العودة لخريطة طريق الشعب الذي لم يخذل قضيته يوماً، وما يستدعيه ذلك من عودة لجادة صواب الوحدة الوطنية ومؤسساتها الجامعة، ولمنظمة التحرير الائتلافية كجبهة وطنية تضم جميع القوى ومسؤوليتها التشاركية في صنع القرار الوطني، وليس منظمة «الرئاسة» التي عانت وما زالت من فك وتركيب هيئاتها لضمان الاستمرار في النهج ذاته الذي أعلن الرئيس نفسه هذه المرة مدى عقمه وانسداده. وإذا كان مسار هذا النهج عقيماً ومسدوداً، وهو كذلك، أفلا يستدعي ذلك إعادة النظر في مضمون وتركيبة أدواته الغارقة في الوهم حد تكريس «عقيدة» استرضاء المحتل؟ خطاب الرئيس عكس واقع قلة الحيلة، وكان بمثابة مبتدأ الجملة التي خلت من الخبر، فظلت ناقصة تنتظر الخطوات المطلوبة. وهي معلومة وجوهرها استراتيجية صمود طويلة الأمد والمصالحة مع المجتمع والناس قبل مصالحة «فتح» و«حماس»، واحترام إرادة الشعب بتشكيل حكومة وحدة وطنية تعالج جروح الانقسام، وتهيئ مناخات سياسية وديمقراطية لانتخابات عامة تتحدى الاحتلال ولا تستجديه. وكل هذه قضايا تشكل منطلق إجماعٍ شعبي يدركها ويعلمها الرئيس جيداً. والسؤال لماذا يتهرب الجميع من مسؤولية التصدي لها؟! لقد أصاب الرئيس بمطالبة متسببي النكبة الذين يستمرون بتغطية جرائم الاحتلال، بالاعتذار لشعب فلسطين وتصويب مسار التاريخ، ولكن ألا يستحق شعبنا اعتذار قيادته له، التي تركته فريسة الانقسام والتيه خمسة عشر عاماً. وحتى لا نقع في دائرة الانتقال من الشك البناء إلى التشكيك الضار، فهل لنا أن ننتظر دعوة الرئيس للقاء وطني شامل لمناقشة الاستحقاقات الوطنية لخطابه واتخاذ كل ما يلزم من قرارات يكتمل بها خبر جملة الخطاب بمبتدئها؟

مشاركة :