مرّة أخرى وليست أخيرة، تتأكّد الاستمرارية المغربية، وهي استمرارية عمرها مئات السنين. من بين ما تتميّز به هذه الاستمرارية كون ملك المغرب أمير المؤمنين، أي الحاكم المسؤول عن كلّ مواطن مغربي وعن كلّ من هو موجود على الأرض المغربية. لذلك، لم يكن هناك في يوم من الأيّام تمييز بين مواطن وآخر منذ القرن الخامس عشر، عندما نزح المسلمون واليهود من الأندلس إلى المغرب. استمرّت هذه الرعاية لليهود عندما حمى الملك محمّد الخامس، جدّ الملك الحالي، اليهود من النازيين في ثلاثينات القرن الماضي وأربعيناته. لم يتغيّر شيء على صعيد الاستمرارية في المملكة التي تحوّلت إلى استثناء في منطقة شمال أفريقيا. الملك في المغرب صادق دائما مع نفسه ومع شعبه. فعندما استقبل الملك محمّد السادس في القصر الملكي في الرباط، قبل أيّام، الوفد الأميركي – الإسرائيلي الذي على رأسه جاريد كوشنر مستشار الرئيس دونالد ترامب وصهره ومئير بن شبات مستشار الأمن القومي الإسرائيلي، كان لافتا الوضوح في البيان الصادر عن الديوان الملكي المغربي. ليس لدى المغرب ما يخجل به. المغرب يعطي شهادات في الوطنية وغير الوطنية؛ شهادات في الصدق والوضوح والاستمرارية السياسية منذ قرون طويلة، منذ عهد الأدارسة قال البيان إن العاهل المغربي “جدد الإعراب عن ارتياحه العميق للنتائج التاريخية للاتصال الذي أجراه في 10 كانون الأوّل – ديسمبر الجاري، مع الرئيس دونالد ترامب”، مشيرا إلى أن “المرسوم الرئاسي الذي يعترف بمغربية الصحراء، إضافة إلى التدابير المعلن عنها من أجل استئناف آليات التعاون مع إسرائيل، يشكل تطورات كبرى في سبيل تعزيز السلام والاستقرار الإقليمي”. أضاف البيان أن “هذه التدابير تهمّ الترخيص لشركات الطيران الإسرائيلية بنقل أفراد الجالية اليهودية المغربية والسياح الإسرائيليين إلى المغرب، والاستئناف الكامل للاتصالات والعلاقات الدبلوماسية والرسمية مع إسرائيل على المستوى المناسب، وتشجيع تعاون اقتصادي ثنائي دينامي وخلاق، والعمل من أجل إعادة فتح مكتبي الاتصال في الرباط وتل أبيب”. لا يمكن عزل أي خطوة يقدم عليها المغرب عن الرغبة في تحقيق السلام والاستقرار في المنطقة كلّها. لذلك، “هنأ العاهل المغربي كوشنر،على العمل الكبير الذي قام به منذ زيارته إلى المغرب في أيّار – مايو 2018، والذي مكّن من تحقيق هذا التحول التاريخي لصالح الوحدة الترابية للمغرب وهذا التطور الواعد على درب تحقيق السلام في الشرق الأوسط”. توجّه محمّد السادس بالكلام إلى رئيس الوفد الإسرائيلي، وهو من أصول مغربية. لم يخف بن شبات الولاء للعاهل المغربي. تمنّى له طول العمر بالطريقة المعتمدة في أوساط المواطنين المغاربة. يدلّ ذلك على تلك العلاقة الخاصة بين كلّ مغربي والعرش. في المقابل، أكد محمد السادس “الروابط الخاصة مع الجالية اليهودية المغربية، ولاسيما أفرادها الذين يشغلون مناصب المسؤولية في إسرائيل”. ليس سرّا أن هناك عشرة مغاربة أعضاء في الحكومة الإسرائيلية الحالية. يعكس ذلك، بكلّ بساطة، الثقل المغربي في الداخل الإسرائيلي. وهذا ما جعل محمّد السادس يذكّر، حسب البيان، بـ”الموقف الثابت للمملكة المغربية تجاه القضية الفلسطينية، والقائم على حل الدولتين اللتين تعيشان جنبا إلى جنب في سلام وأمان، وعلى المفاوضات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي كسبيل وحيد للتوصل إلى تسوية شاملة ونهائية. كذلك التزام ملك المغرب، رئيس لجنة القدس، الحفاظ على الطابع الإسلامي للمدينة المقدسة”. لم تكن زيارة الوفد الأميركي – الإسرائيلي على طائرة قامت بأوّل رحلة تجارية بين تل أبيب والرباط أمرا عاديا بأي مقياس من المقاييس. كرّس الحدث حقيقة ثابتة تتمثّل في أن المغرب دولة مؤسسات عريقة. ففي ختام هذا الاستقبال في القصر الملكي في الرباط، جرى التوقيع، أمام الملك محمد السادس وفي ظلّ العلم المغربي وحده، على إعلان مشترك بين المملكة المغربية والولايات المتحدة ودولة إسرائيل. وقع الإعلان رئيس الحكومة المغربية سعدالدين العثماني وكوشنر وبن شبات. معنى ذلك أن المغرب دولة مؤسسات تتحرّك في إطار الخطوط العريضة التي يرسمها القصر الملكي بغض النظر عن طبيعة الحزب الذي يتولى رئاسة الحكومة. في منطقة يسودها الكثير من التخبط والاضطراب، تظهر في كلّ يوم الحاجة إلى الاستمرارية من جهة والوضوح والصدق من جهة أخرى. من هذا المنطلق، ليس المغرب دولة عادية تسعى إلى المتاجرة بالقضيّة الفلسطينية وبيع الأوهام كما يفعل غيرها. في النهاية، هناك عدد محدود من الزعماء العرب يمتلك صفات محددة تسمح له بأن يكون من دون عقد وأن ينظر إلى المستقبل بثقة. ما يهمّ محمد السادس الموجود على العرش منذ ما يزيد على 21 عاما هو العلاقة التي تربطه بكلّ مواطن مغربي. يعرف كلّ مواطن ماذا تحقّق في عقدين من الزمن على كلّ صعيد في ظلّ الاستمرارية التي ربطت محمد السادس بوالده الحسن الثاني وجدّه محمّد الخامس وجدودهما. لا يمكن عزل أي خطوة يقدم عليها المغرب عن الرغبة في تحقيق السلام والاستقرار في المنطقة كلّها. لذلك، “هنأ العاهل المغربي كوشنر،على العمل الكبير الذي قام به منذ زيارته إلى المغرب في سنة صعبة مثل السنة 2020، لم تمنع الأحداث المغرب من التطلّع إلى المستقبل بدءا بتكريس مغربية الصحراء والانتهاء من هذه القضيّة المفتعلة التي ليست سوى قضيّة ابتزاز جزائري له، ابتزاز مستمرّ منذ ما قبل العام 1975، تاريخ استعادته للصحراء من المستعمر الإسباني. كانت معظم الخطابات التي ألقاها الملك محمّد السادس في 2020 مكرّسة لكيفية مواجهة وباء كورونا (كوفيد – 19) وحماية المواطنين المغاربة منه. استطاع المغرب مواجهة كلّ الصعوبات التي حفلت بها السنة. أكثر من ذلك، لم يترك فرصة اهتمام الإدارة الأميركية بالاستجابة لما يطمح إليه تمرّ. حصل على اعتراف أميركي بمغربية الصحراء من دون التخلي عن أي مبدأ من المبادئ التي يؤمن بها. في مقدّم هذه المبادئ العلاقة الخاصة القائمة بين المملكة وأبناء الطائفة اليهودية وإيمان المغرب بعدالة القضيّة الفلسطينية وحل الدولتين من جهة أخرى. ليس لدى المغرب ما يخجل به. المغرب يعطي شهادات في الوطنية وغير الوطنية؛ شهادات في الصدق والوضوح والاستمرارية السياسية منذ قرون طويلة، منذ عهد الأدارسة، الذين حكموا بين سنتي 788 و974. في حال كان هناك من يحتاج إلى التعرف إلى عراقة المغرب، فهو يستطيع زيارة جامعة القرويين في مدينة فاس والعودة إلى تاريخها الممتد منذ منتصف القرن التاسع الميلادي (السنة 859). تبدو العودة إلى التاريخ ضرورة بين حين وآخر، أقلّه من أجل فهم ما يدور حاليا، بما في ذلك سرّ الاستمرارية المغربية…
مشاركة :