في سيرته الذاتية "حفريات في الذاكرة من بعيد" يسرد المفكر المغربي محمد عابد الجابري (1936- 2010) موقفًا يلح عليه من مرحلة الطفولة، ويصفه بـ"الفطام الحقيقي"، حيث كانت الأم تجلس على الأرض تغزل الصوف، وهو يلهو حولها ويحبو في الأرجاء، وعملية الغزل تقتضي جعل رجلي المرأة عرضة للعُري فتحدث فجوة ما بين القدم اليسرى الممتدة على الأرض واليمنى المنتصبة على شكل زاوية، جعلت الطفل ينظر لهذه الفجوة، ويتجه برأسه نحوها وهو يحبو، فالأطفال دومًا مولعون بالكشف عن الأسرار وارتياد المناطق الممنوعة، فلم يشعر إلا ويد أمه تدفعه بعيدًا عنها دفعة قوية عنيف، قضت على فضوله، وجعلته يحس بالندم.يعتقد "الجابري" أن هذا الموقف الذي تعرض له في طفولته يمكن تفسيره بكونه علامة الإدراك الأولى، حيث أدرك أنه شيء وأن الأم شيء، وأنه لو كان يفكر بعقله وقت كتابة "المذكرات" لاستطاع أن يقول: إن الولادة عملية غير قابلة للانعكاس، والعودة إلى الرحم هي أولى المستحيلات.منذ هذه اللحظة ينتبه "الجابري" لمسألة الإدراك بشكل ملحوظ، فهو منذ طفولته ينتبه للحياة من حولة، لعلاقته كطفل بالموت، سيطرة الخرفات المتعلقة بالجن والأساطير على البيئة التي نشأ فيها، تعامل أسرته مع الطبيعة، واعتقادهم في الكائنات التي تعيش معهم، وتقاسمها للبيت كالأفاعي والجن.نظرة نقدية واعية للتراثيحصل "الجابري" على درجة الدكتوراة في الفلسفة من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط؛ ليكون أستاذ الفكر العربي والفلسفي بالجامعة، ويستكمل وعيه من خلال الانتباه لمشروع الدكتور طه حسين في نقد التراث، والتوقف عن تحميله مالا يحمله أو إعادة بنائه بصورة مرضية لرغباتنا وميولنا.ومن خلال كتابه "التراث والحداثة" يطالب الجابري بـ"نظرة نقدية واعية للتراث تحترم عالميته وخصوصيته التاريخية، فلا يجوز مثلا أن ننقل صراعات الماضي إلى الحاضر، إن الصراعات الفقهية والكلامية والفلسفية كانت لها مبرراتها في الماضي، ومن الغفلة نقلها إلى الحاضر، فالفكر الأشعري والفكر المعتزلي والفكر الشيعي والفكر الصوفي والفكر الفلسفي؛ كل ذلك يجب أن نتقبله من الجميع وإلى الجميع، ولا شك أن به عناصر قابلة للحياة والتطوير".استقالة العقل العربي عند الجابرييطلق الجابري مصطلح "العقل المستقيل" من خلال مشروعه "نقد العقل العربي" على العقل الذي يتوقف عن الإبداع، يتوقف عن المشاركة في صنع الحضارة، يفشل في اقتحام المسلمات، يعتمد على مقولات الآخرين، يستند على بدائل معرفية، عقل قدم استقالته من وظيفته النقدية والإبداعية، ومن مظاهر هذا العقل المستقيل، التي تفصح عن هويته، عندما يطلب أن "يعقل عن الله" حتى تلك الأمور التي تركها الله للإنسان كي يعقلها مباشرة عن الطبيعة، فيسخرها لمصلحته أو يتخذ منها دليلا وهاديًا إلى إثبات وجود الله نفسه، هذا فضلا عن تلك الأشياء التي قال فيها نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم: "أنتم أعلم بشئون دنياكم".تعميم الروح الرشديةمن الطبيعي أن نجد المجتمع العربي الذي قدم عقله استقالته عن وظيفة الإبداع والنقد والتطور، وعاش في أحضان "اللامعقول"، يُنتج حالة التشدد والتطرف للتيارات الإسلامية المنتشرة في طول البلاد العربية وعرضها، بل ونجحت في تقويض عدة دول مثل العراق وسوريا واليمن وليبيا في وقتنا الحالي.يلفت "الجابري" إلى دور إيقاظ العناصر الحية داخل تراثنا، ما من شأنه أن ينتشل مجتمعنا العربي من هوة "الإسلام السياسي"، ففي مقدمة كتابه "ابن رشد.. سيرة وفكر" طالب بتعميم الروح الرشدية في الأوساط الثقافية والمؤسسات التعليمية من أجل الحد من التطرف الديني إلى درجته الأدنى، وترشيد "الإسلام السياسي". في الوقت ذاته يحذر "الجابري" من تفاقم حركات التطرف، فالأخير موجود في كل الحضارات ولا يقتصر على العرب فقط، لكن مكانه الطبيعي أن يكون في أطراف الدول والمناطق الهامشية، فمثلا الخوارج قديما كنا نجدهم يسيطرون على مناطق في أطراف العالم الإسلامي، ولم تنجح في الوصول إلى مركز الدولة، فعندما تصل إلى الوسط والمركز، فهذا دليل على فقدان تلك الدول للمبادئ الأساسية في الحكم كالعدالة والديمقراطية، أي فقدت الأمور التي تضمن الاستقرار.السمات العامة للعقلانية الرشديةيركز "الجابري" على دراسة السمات العامة لعقلانية ابن رشد الواقعية، ويبرزها من خلال عدة نقاط كالتالي: الفصل بين الدين والفلسفة باعتبار أن لكل منهما مجاله الخاص وطريقته الخاصة، والنظرة الاكسيومية إلى كل من البناء الديني والبناء الفلسفي، أي ربط القضايا بمنظومتها الفكرية الأصلية. تأكيد العلاقة السببية في عالم الطبيعة وعالم ما بعد الطبيعة سواء بسواء، وفهم حرية الإرادة البشرية ضمن الضرورة السببية وربطها بالعلم والأسباب. الميل إلى نوع عقلاني خاص من وحدة الوجود، يعتبر الإله كقوة رابطة بين أجزاء الكون وظواهره، قوة روحية هي في آن واحد مندمجة في الكون ومتعالية عليه.ومن ناحية أخرى: الشعور المرهف بخصوصية الخطاب الديني والخطاب الفلسفي وبثقل المسئولية الملقاة على كاهل الفيلسوف. صعوبة الإمساك بالحقيقة، بل باستحالة الإمساك بها كاملة سواء في مجال الدين أو مجال الفلسفة، الإدراك الواعي للإخطار التي تحدق بمن يغامر بالكشف عنها لمن ليس مؤهلا لتقبلها، وبالتالي الإدراك الواعي لثورية الحقيقة من جهة أخرى.القطيعة بين المغرب والمشرقشرح "الجابري" فكرته حول الانفصال العميق بين فلاسفة المشرق أمثال ابن سينا وفلاسفة المغرب أمثال ابن رشد، واصفا الاتصال بين المدرستين بالظاهري، لأن الروح التي تحكمهما مختلفة ومتناقضة.يرى صاحب مشروع "نقد العقل العربي" أن فلاسفة المشرق كانوا يمارسون نوعًا من التفكير العقلاني ولكنهم ينتهون دومًا إلى نوع من التصوف والغنوصية. أما ابن رشد فلقد احتفظ بعقلانيته الصارمة وواقعيته المتفتحة إلى آخر لحظة من حياته.يوضح الجابري أن نقطة الانطلاق غالبًا ما تحدد نقطة الوصول، حيث كان الفكر الفلسفي في المشرق مؤسسًا على نظرية الفيض ومحكوما بها، بينما يرفض ابن رشد هذه النظرية بقوة ويصفها بأنها "خرافات وأقاويل أضعف من أقاويل المتكلمين"، لقد كانت فكرة الفيض تشكل القاعدة الأبستمولوجية للفكر النظري الفلسفي في المشرق.هذه النظرية بحسب الدكتور محمود قاسم -ينقل الجابري- أنها نظرية شهيرة تفسر لنا كيف وجدت الكثرة في العالم ابتداء من موجود واحد، قد لعبت دورا كبير الأهمية في توجيه الفلسفة الإسلامية توجيها حاسمًا نحو نوع من التصوف ذي طابع خاص كل الخصوص.يتحفظ "الجابري" على مقولة "قاسم" السابقة: توجيه الفلسفة الإسلامية. موضحًا أن التوجيه كان للفلسفة الإسلامية في المشرق تحديدًا. ويشير إلى أن هذا "النوع الخاص" من التصوف هو ما سماه باحثون بالتصوف العقلي أي التصوف النظري المؤسس على التأمل العقلي، وذلك تمييزا له عن "التصوف الوجداني" الذي نجده عند الحلاج، والتصوف العملي المبني على الزهد لدى أهل السنة وغيرهم.ويصف "الجابري" الفلسفة في المشرق أنها كانت متجهه إلى الوراء لأنها استعملت العقل لإضفاء نوع من المعقولية على ما هو "لا عقلي" أي على نزعتها الصوفية، ومن هنا اكتسبت طابع الفلسفة الدينية.أما فلسفة ابن رشد فلسفة مستقبلية، على الرغم من ارتباطها بأرسطو، متأثرة بالحركة الإصلاحية التي قادها ابن تومرت مؤسس دولة الموحدين والتي اتخذت شعار "ترك التقليد والعودة إلى الأصول" ومن هنا انصرفت المدرسة الفلسفية في المغرب إلى البحث عن الأصالة من خلال "قراءة جديدة" للأصول وفلسفة أرسطو بالذات.انتقادات للجابريخلال مشواره الفكري تعرض الجابري للكثير من الانتقادات ليست فقط من الجماعات المتطرفة أو الأحزاب السياسية التي كانت منافسة لها أيام العمل السياسي لكنه تعرض أيضا لنقد من أبناء النخبة الفكرية الفلسفية مثل أدونيس وطه عبدالرحمن، وقد وصل ذروة ذلك مع جورج طرابيشي الذي أمضى عمرا طويلا من حياته في مناقشة أطروحات "نقد العقل العربي" للجابري.من الطريف تعقيب الجابري على انتقاد البعض له، فحينما وصفوه أن يسيء فهم النصوص التي يقرأها ويستنطق الآخرين كلامًا لم يقولوه، فكان من الطريف أن يرد الجابري بكل بساطة: ليس من المنطقي أن أفهم كلام الناس بالطريقة التي يفهمها أصحاب هذا الرأي، فأنا أقرأ وأفهم الفهم الخاص بعابد الجابري بينما هم يفهمون الفهم الخاص بهم، لذا كان من المنطقي أن يحمل كل إنسان منًا اسمًا مختلفًا عن غيره، وإلا فلنحمل كلنا اسمًا واحدًا وفهمًا واحدًا.ورغم أهمية ما كتب "طرابيشي" في مشروعه "نقد نقد العقل العربي" فإن بعض التحامل من ناحيته جعل "الجابري" يعرض عن قراءة ما كُتِب، ووفق حديث الأخير في لقاء تلفزيوني قال: إنه لم يقرأ إلا بعض سطور من مقدمة طرابيشي، حتى وصل لعبارة لا بد أن نُنزل الجابري عن عرشه. فشعر الجابري أنه يقرأ كلامًا وصفه بـ"غير المسئول".
مشاركة :