ما زالت المنيا تجسد كل أحلام الطفولة والصبا وتمتد خيوط الحلم حتى الشيخوخة، ما بين جبلين ونهر ووادى وبشر، وحارة عبدالحى التى ولدت بها يترعرع الحلم وينمو ويجف ويعود للنمو من جديد، كانت طفولتى تركض أمامى هذا الصباح، تسبق ظلى، وما بين طفولتى وظلى كانت ذكرياتى تخطو نحو بدايات المعرفة. لا أنسى من علمونى، أبى شفيق سليمان، كان رجلا بسيطا علمنى حب الحياة وعشق الوطن، تمتع بكل حكمة الفقراء وثراء معرفة المناضلين، وعشق العلم عشقة لأولاده، استدان وضحى من أجل أن نتعلم، ونعبر من على جسر التعليم نحو الحقيقة. رفعت السعيد: حينما كنت أصعد إلى درج التجمع كنت أراه فى نهاية الدرج حلما وأنشودة، كانوا يختلفون معه ولا يختلفون عليه، تعلمت منه أن الإنسانية لا تسير إلا بأقدام اليسار، وأن الحلم لا بد أن ينطق بلسان طبقى، يبحث عن الحقيقة بالاختلاف، ويروى ظمأ العدل بعرق العمال، كان أبا وصديقا ورفيقا وأستاذا، ورحل وتبقت سلالم الدرج لمن أراد الصعود. زكى مراد المحامى: مناضل كان النيل يفيض من ابتسامته، وحينما تنفرج الشفتان كانت الابتسامة تكشف عن وجه نوبى يجمع شاطئى النيل فى جمجمة الألهة الفراعنة الأوائل، كان العمال والفلاحون فى العينين، والحزب ضحكة تجرى مع مياه النيل، عشقت من سمار الوجة طمى النهر، وعرفت من تضحياته معنى الحياة، وحينما رحل تبقت ابتسامته رحيقا للحرية. عمى أحمد الرفاعى: آخر موجات نهر المنيل إلى الروضة، من عمق النهر والدلتا تفيض كلماته كأنها تراتيل عروس النيل التى تنتظرالعشق الإلهى، ويخفى خلف طيبة الفلاح عمق العالم، دوارة مرسى للحلم، ومن خلف جلباب العمدة، كانت عيون الكلام تحمل صبر سنديانة خضراء تطرح طعم الخبز الخارج من فرن الحرية، ورحل وبقت كلماتة فى الحشا والقلب. أحمد عبدالعزيز: من خلف النول اليدوى كان ينسج ثوب الحزب، وفى الشارع الحسينى بالمنيا كان المعبد الذى نصلى فيه للوطن والطبقة أناشيد الحرية، عامل نسيج يسارى، يؤذن من على منبر الحرية صلاة لله والوطن والحزب، اخشوشنتا كفاه من خيوط الحلم بحثا عن الحقيقة، علمنى كيف يكون العطاء لغة، والتضحية منهجا، ورحل وما زال يعيش فينا. أحمد رشاد: طفل الطبقة العاملة الذى لم يفطم، وعندما كان ينتابة الحلم يخرج محلقا فى سماء الحرية، يمسك بكأس القدر ويسكر من عرق الفقراء ويهتف بحب الوطن، وعندما تحول الحلم إلى كابوس هرب من الكابوس إلى البحث عن «زوربا»، وعانق معة كأس الحياة حتى اسكرة الحلم وغاب عنا ولكنى تعلمت منه أن الواقع الذى لا تستطيع تغييرة اسخر منه. فؤاد ناشد: بين شطوط حلم الحرية كان منزلة بسمالوط سفينة نوح نعبر بها نهر اليسار إلى دير العذراء، ومن صلب الجبل كانت بساطته، قديس يجوب يصنع خيرا فى صمت، ونسمة حرة فى قيظ الوطن، لم يكتب ولكنه عمل وعلم، وحينما كانت تغيب شمس الحرية كان ينيرالطريق، وعندما كنا نشعر بالظمأ كان ينبوع عذب، رحل وما زالت مياهه تروينى. ويظل فؤاد ناشد عجمى، أحد أبرز المناضلين اليساريين المصريين الأقباط، وأيضا من «الأراخنة» الخدام الذين كانت أسوار كنائسهم تتسع لأسوار الوطن أنور إبراهيم يوسف، عضو مجلس محلى المحافظة، والدكتور إبراهيم أبوعوف نقيب أطباء الأسنان بالمنيا، والقيادات العمالية، أحمد عبدالعزيز وأحمد رشاد وأحمد شوقى، والقادة الفلاحون عبيد عياد مرجان، والشيخ على عبد الرحيم (والد د. عبد الرحيم على) نقيب العاملين بالمساجد، والذى جمع بين نقاء رجل الدين وحكمة النقابيين، وشيخ العرب فاروق أبوسعيد قيادة من القضاه البدو العرفيين.حينما كانت مصر السادات حبلى بالثورة، كنت الأصغر وسط هذه القامات ومعى الطبيب الشاب د. وجية شكرى الذى صار أمين التجمع فيما بعد، كان التجمع حينذاك يضم قادة مسيحيين خداما حقيقيين مثل فؤاد ناشد والدكتور الصيدلى رمزى فهيم، والدكتور مهندس ميلاد حنا، والمحامى عريان نصيف وآخرين، ولم يكن هؤلاء يجلسون فى الصفوف الأولى بمقاعد الكنيسة فى الأعياد حتى يوجه لهم الشكر- كما يحدث الآن، جنبا إلى جنب مع رجال دين وأزهريين مثل المشايخ مصطفى عاصى وخليل عبدالكريم وعلى عبدالرحيم، رحل أنور إبراهيم وأحمد عبدالعزيز وأحمد رشاد وعمى عبيد عياد وعلى عبدالرحيم، وظل فؤاد سنديانة وارفة يستظل بظلها الفقراء والفلاحون الأجراء وأسس مع عبيد عياد وعريان نصيف وشاهندة مقلد اتحاد الفلاحين، وجاب معهم القرى والنجوع المنسية الأسماء على طول الشط، الرجل الهادئ الذى لا يعلو صوته فى الأزمات، مملوء بالرجاء «قصبة مرضوضة لا تكسر وفتيلة مدخنة لا تطفأ»، سلاما عليك وعلى وطنك وعلى حزبك، وستظل تعيش فينا ما حييت. الآن لن أنسى هؤلاء.
مشاركة :