سألني الصديق: كيف تفسر أن المدنية الأوروبية قد حققت ما حققت واستقر بها الامر على ما تقول بين التنمية والتفرغ للتمتع بالحياة؟ - قلت: اعتقد ان السر يكمن في ان هذه المدنية قد حسمت قضاياها الرئيسية بشكل شبه نهائي: الحرية-الديمقراطية-العدالة وحقوق الانسان-الهوية الوطنية-الدين والحياة والقانون، وإدارة شؤون الدولة...وباختصار انتهت الصراعات حول هذه القضايا التي ما نزال نتهجى احرفها الأولى دون توفيق او توافق، ولذلك تبدو هذه القضايا عندهم خارج السياق. نحن نكاد نكون الشعوب الوحيدة التي لا تدري من هي؟ وما تزال تتساءل حول هويتها وتطرح أسئلة خارج منطق العصر، بإعادة انتاج ذات الأسئلة منذ عصر النهضة المزعومة. اما المدنية الأوروبية فقد حسمت كل النقاش حول قضايا السلطة وإدارة شؤون الناس واليات العمل الديمقراطي والحريات الحقوق والواجبات وسيدة القانون، ولذلك عندما نناقش قضايانا مع الأوروبيين العاديين تبدو لهم اقرب الى نكتة مملة، فأسئلتهم الملحة اليوم تدور حول البيئة والصحة والتعليم والطاقات المتجددة وأسعار العملات والبيوت وكيفية المحافظة على الأشجار والقطط والكلاب، وحتى اكثر قضاياهم مثارا للجدل فهي التي ترتبط بكيفية التعامل مع المهاجرين او الفارين من جحيم بلدانهم من الذين اضطرهم التخلف والتوحش في بلدانهم الى الهجرة والهروب الى المواطن الأوروبية، فهم اليوم في قلب المناقشات الاجتماعية والسياسية والإعلامية الساخنة: معاشهم ومماتهم وتعليمهم ودمجهم ودينهم وهويتهم بكامل ترسانة القضايا المنقولة جوا وبحرا وبرا الى هذه الديار. - قال الصديق: كأنك تنفي مسؤولية الأوربيين على ما نحن فيه من هم وغم وتخلف وحروب وفوضى تدار الى اليوم من قبلهم لنظل كما نحن في حيرة الفارياق على حد قولك. - قلت: الأوربيون أنفسهم لا ينفون هذه المسؤولية ويحاولون إيجاد طريق لمعالجة هذا الحمل التاريخي. هذا صحيح ولكننا نحن من اختار ان نبقى في موقع المفعول به دائما، والتحرك داخل سياق الفشل المزمن على الصعيدين السياسي والتنموي، فقبل أربعين عاما كنت أتصور أن هذا الوطن الكبير سيصبح بعد عشرين أو ثلاثين سنة وطنا واحدا، بلدا كالولايات المتحدة أو على الأقل كفرنسا أو حتى كالنمسا أو هولندا، وكنت أتصور أنه في زمن غير بعيد ستصبح أراضي السودان كافية لتغطية حاجات العرب الغذائية، وأن مصر ستكون أكبر إقليم للصناعات الحربية، وأن بلاد الشام سيكون أكبر إقليم منتج للسيارات، وأن إقليمنا الخليجي سيصبح أضخم إقليم ينتج الكومبيوتر وأجهزة التلفزيون، وأن المغرب العربي سيكون قادراً على تغطية حاجاتنا من الملابس والغسالات والكتب المدرسية ، وأن فلسطين العائدة في التسعينات من القرن الماضي مثلا- ستكون أكبر منتج للعطور والشعر، ولكن كبرنا وكبرت الدمعة في العين، والغصة في القلب وشاهدنا مواكب الذل والتقهقر تتوالد موكبا وراء موكب إلى ما لانهاية، والأيام تمر وكذلك الأعوام كشريط الكاسيت، وعندما نصل إلى آخر الشريط نجد أن الشريط واقف، والجهاز معطوب، والكهرباء لم تصل بعد إلى نصف القرى العربية، بل إن بلدا كبيرا وغنيا مثل العراق يرقد على بحيرة من النفط، اصبح اقصى ما يطالب به المواطن العراقي فيه اليوم هو الحصول على الكهرباء اتلي أصبحت اعز من شربة الماء!!. - قال الصديق: اراك تبالغ في جلد الذات وتلميع صورة المدنية الأوروبية، فكأنك تعود بي مجددا الى رحلة الفارياق ومشاهداته المنبهرة بالغرب. بحيث يبدو عالمنا وكأنه بلا افق؟ - قلت: اعتقد ان الأفق كان دوما موجودا وسوف يظل موجودا، وقد نبه اليه العشرات من المفكرين والمثقفين العرب، مثل محمد عابد الجابري ومحمد اركون وعبدالله العروي وحسن حنفي وطيب تيزيني ومحمد جابر الانصاري وغيرهم، كل واحد منهم وضع لبنة ورؤية وحلل واقترح، ولكن لا يمتلك أي واحد منهم تقديم وصفات جاهزة على قوائم الطعام، المطلوب من السياسي ومؤسسات المجتمع المدني وخاصة الأحزاب السياسية ان تنشغل بهكذا قضايا وليس فقط بإدارة المظاهرات وسد الطرقات وإصدار البيانات، واتهام الحكومات، فالأحزاب يفترض بها ان تكون مختبرات للفكر والعلم وابداع الحلول وتقديم الاقتراحات البناءة القابلة للتنفيذ.. كما على المثقف ان يستمر في كشف المعوقات الذهنية والعراقيل التاريخية والاجتماعية التي تعوق التقدم الفكري وكشف أوجه الخلل في تعامله من النص الديني أو مع التاريخين الإسلامي والإنساني، والعمل في ذات الوقت على طرح سؤال العقل الإسلامي في شرطيه المعرفي والتاريخي، وتكون من بين مهامه مقاومة النسيان والتغييب وإعادة بناء الذاكرة، كي يستقيم الموقف ويبطل الخلل، كما على الجامعات ان تعيد الاعتبار للعلوم السياسية، وعلم الاجتماع التاريخي، والمساعدة على بناء واعداد جيل من الباحثين في مجال تقصي التحديات التاريخية والفكرية والعلمية التي تجابهنا، لكسر الأغلال عبر المناهج التربوية الحديثة وأدوات المعرفة بغرض الوصول إلى الحرية الحقيقية. كما على المشتغلين بشؤون الدين والقائمين على مصالح المؤمنين التوقف عن اعتبارنا ( جهالا) وناقصي عقل ودين، والعمل بالعكس من ذلك- على تجديد منهج استنباط الأحكام الشرعية ضمن سياق العصر والحداثة، ذلك أن الواقع يتطور بنسق سريع في حين الفقه الإسلامي يعيش فراغات كبيرة لا يمكن أن نجد لها حلولا في آراء القدامى. وإذا كان المنهج الأصولي يستجيب في كل مرحلة للتحديات الواقعية التي يواجهها المسلمون، فذلك لأنه كان ينطلق مع اجتهادات حيوية عصرية تستجيب لمصالح المؤمنين ولمعاشهم، أما اليوم فقد توقف كل شيء عند محطة النقل والخرافة والتقديس، مما ترك الناس في حيرة وفي غربة مع العصر ومع الحداثة التي يعتبرها البعض منا كفرا وفسادا ووباء، مع انهم ينعمون بنتاجاتها في مواطنها المتقدمة... - قال الصديق: وكأنك حملت المسؤولية في النهاية الى الأحزاب والمثقفين ورجال الدين واستبعدت رجال السياسة؟ - قلت: جميعنا مسؤولون، بأقدار مختلفة، وفي مقدمتنا رجال السياسة الذين إذا ما حسموا أمورا عديدة وفي مقدمتها اليات إدارة شؤون البشر واشراك الناس في حياة سياسية متطورة يشعر فيها الجميع بالمساواة والحرية والعدالة، وان فعلوا ذلك يكونون قد قطعوا نصف المسافة الى الحداثة والتقدم، لنتفرغ للتنمية والتمتع بالحياة مثلما يفعل الأوروبيون اليوم.
مشاركة :