حالة من الترقب الحذر في منطقة الخليج لما قد تسفر عنه قمة الرياض من مخرجات لمصالحة مع قطر يبدو أنها دخلت المراحل الأخيرة قبل إعلانها، سواء من خلال الجهود الكويتية أو العمانية، أو من خلال الوساطة الأميركية، وكذلك من حيث انفتاح على تلك المبادرات والوساطات من قبل الرياض، التي تتزعم قاطرة العواصم المقاطعة للدوحة منذ يونيو 2017. الحذر مرده عدم وجود ثقة كافية في النظام القطري، الذي وضع نفسه منذ سنوات في قبضة قوى عقائدية ذات أجندات تتجاوز طموحات أبناء الخليج في الوحدة والسلام والرفاه إلى أهداف حزبية وحركية مرتبطة بمشاريع لا تؤمن بالدولة الوطنية، ولا بخصوصيات الأوطان والمجتمعات، وتعطي لنفسها الحق في التدخل في شؤون الدول والشعوب وفي التآمر على الأنظمة والحكومات، وهي تحتل مراكز النفوذ والقرار في العاصمة القطرية، التي تحولت إلى منصة لإبداء مشاعر العداء والكراهية نحو السعودية والإمارات والبحرين ومصر، وتقود معارك صاخبة من خلال المنصات الإعلامية على كل من لا يقف في صف الإسلام السياسي والتيارات الفوضوية الرافعة لشعارات الثورة والفوضى والتغيير العنيف. فهل تستطيع قطر القطع مع تلك الشعارات، التي تمس من أمن واستقرار الدول الأخرى؟ وهل تقدر على كبح جماح من دخلوها باحثين عن مصدر رزق ثم تحولوا إلى صواريخ موجهة بخطاب الفتنة وبذور الشقاق، يتحدثون باسم الديوان الأميري، ويحملون رتبا في جهاز المخابرات؟ واقعيا، أضحت تلك القوى المتشددة في عدائها للدولة الوطنية ولعموم محور الاعتدال، صاحبة القول الفصل في الدوحة، وهي التي تحدد مسارات النظام، وترى أن انفرادها به لا يكون إلا بعزله عن محيطه، وأن بذلك الانفراد تحوّله إلى أداة طيعة لخدمة أهدافها الشخصية والحزبية والتنظيمية العابرة للحدود، حيث بات كل طرف يلعب على أكثر من وتر؛ وتر عزل قطر والدفع بها إلى معاداتها لجيرانها وأشقائها، ووتر تحويل ذلك العداء إلى أداة للتأثير في مجتمعاتها الأصلية، كما هو الشأن بالنسبة للسوريين والمصريين والفلسطينيين والسودانيين وغيرهم، ممن يتزعمون حملات الإساءة لأوطانهم، ولكل الدول والتيارات، التي لا تتوافق مع مشروع الإخوان والجماعات الراديكالية الفوضوية المدعومة من الدوحة، أو مع الأطماع التوسعية التركية والإيرانية في المنطقة. والمؤثرون في القرار القطري من هذه الناحية، تيارات عدة تختلف توجهاتها وانتماءاتها، وتجتمع على توحيد صفوفها في الإبقاء على عزلة الدوحة، منها ما هو سياسي يرى أن المصالحة تعني قطع الطريق أمام استمرار المواجهة والتحريض، والأمل في استعادة مجريات الفوضى، وفق ما تسميه بالموجة الثانية من الربيع العربي، الذي نرى له دعاة من رواد الديوان الأميري ككرمان اليمنية، والمرزوقي التونسي، والصلابي الليبي، وأيمن نور المصري، وجماعات الإخوان والاشتراكيين الثوريين وتجار الأزمات والفتن وغيرهم، ومنها ما هو متورط في جرائم لا يريد للمصالحة الخليجية أن تفتح باب تسليم أفراده لبلدانها الأصلية، أو أن تجفف منابع التمويلات التي يحصل عليها، أو أن تغلق أمامه أبواق التحريض والترويج لأفكاره التخريبية ومشاريعه التدميرية. كما أن من تلك التيارات، من يعتبرها بالأساس مصدر استرزاق وبابا للتمعش، ويعتمد في ذلك حتى على اللعب على التوازنات الداخلية في الأسرة الحاكمة لنيل المزيد من المكافآت من هذا الطرف أو ذاك، والحوافز التي عادة ما تمنح لمن يبدي تطرفا أكثر من غيره، أو تفسيرا للأحداث تتماشى مع مزاج الراغب في سماع التحاليل، وقد لوحظ ذلك في مناسبات عدة، من خلال تهويل الأحداث، إذ يكفي مشهد مصور بالهاتف النقال لعشرين متظاهرا على حادث سير أو تأخر دفع أجور عاملين في مصنع، لتقديمه على أنه بدايات ثورة جديدة، في مصر مثلا. وخلال الأيام الماضية، وفي الوقت الذي كثر فيه الحديث عن المصالحة الخليجية، رفعت وسائل الإعلام القطرية في الداخل والخارج من وتيرة تهجمها على الدول المقاطعة، وخاصة الإمارات والبحرين ومصر، مع مهادنة وقتية للسعودية التي ستحتضن قمة مجلس التعاون الخليجي، وأصبح إعلاميو الديوان الأميري يستفزون المتحدثين من ضيوف ومحللين للدفع بهم نحو إبداء الانتقادات الحادة لتلك الدول بتحميلها مسؤولية كل الخراب، الذي تعرفه المنطقة في قلب ممنهج للحقائق، وكان الواضح من ذلك أن هناك من يعتقد أن المصالحة مع السعودية ستكون منطلقا للمزيد من التآمر على شقيقاتها، وأن المطلوب هو تحييد الرياض، أما البحرين فلا بأس من الدفع نحو المزيد من توتير العلاقات معها، وكذلك الأمر بالنسبة للإمارات ومصر. وهناك من يسأل: هل سيلجم للنظام القطري، في حال تحقق المصالحة، الأبواق التي أسسها ومولها في عدد من العواصم العربية والغربية؟ أم سينكر علاقته بها ويكتفي بالتبرؤ مما تقول؟ وهل سيقطع علاقاته فعليا مع الميليشيات والجماعات المسلحة أم سيخبرها بأنه مجبر على تقديم تنازلات ويقنعها بأنه مضطر لاعتماد السرية والكتمان في دعمها؟ إن التجربة أثبتت أن أصابع الأخطبوط القطري الممتدة في أغلب الدول العربية والغربية، عبر جماعات الإسلام السياسي وبعض القوى الانتهازية، لن تتراجع عن دورها التخريبي ولن تحتاج إلى الدعم المباشر من الدوحة، وإنما هناك أساليب عدة أخرى سواء عن طريق الجمعيات والأحزاب أو عن طريق الاستثمارات القطرية في تلك الدول والتي يتم استعمالها في تمويل تلك الأبواق. خلاصة الكلام أن الموقف القطري لا يزال يراوح مكانه، وتصعب عليه مغادرته، نظرا لاعتبارات شتى، منها أنه تجاوز محيط الإمارة الخليجية الجغرافي وحجمها السياسي، كما تجاوز قدرة النظام على لجمه نظرا لاختلاف وجهات النظر داخله، وتغلغل المشروع العقائدي المعادي لمحور الاعتدال في مراكز النفوذ والقرار، وتضخم الأنا وارتفاع مستويات النرجسية لدى جانب مهم من الفاعلين في النظام ممن يعتقدون أنهم لا يزالون قادرين على إسقاط هذا وتصعيد ذاك بقوة المال والإعلام. وهناك من يرى أن الدور المحوري لبلاده لا يكون إلا بالتمايز على بقية الدول الخليجية والعربية، وتبني شعارات التغيير الفوضوي بدوافع عقيدة الثأر القبلية الضاربة في القدم، وهو ما يستغله المعتاشون على الأزمات والطامحون إلى تحريك الفتن، وأغلبهم من الوافدين الذين سرقوا من الشعب القطري دوره كمصدر للسلطة والقرار.
مشاركة :