في روايته الجديدة الصادرة هذا العام 2015م عن (مؤسسة الانتشار العربي) ببيروت، يقدم لنا الكاتب والروائي محمد المزيني عملا أدبيا سرديا، على هيئة (سيرة ذاتية) تعامل مع الواقع المحيط وظروفه المتباينة تعاملا حيا، جعل من المجتمع بجميع جوانبه المادية والمعنوية هاجسه السرمدي الذي يكتنفه بـ (فوبيا) العزلة والوحشة، والشعور بالوحدة والخوف، أينما كان موقعه من نسيجه الاجتماعي ذي الخيوط البالغة التعقيد في تكوينها ظاهريا وباطنيا. إن هذه الرواية الموبوءة بالحزن والأسى والبؤس، المسكونة بالخوف والهلع من كل شيء، بل ربما أقول (لدرجة قد تبلغ الخوف من لا شيء أحيانا) وذات الأجواء والمناخات الملبدة بصراع شخصيتها المحورية (رياض) تلك الشخصية المتمردة على محيطها، وكذلك الشخصية الثانوية فيها (شيماء) التي أحبها قد نتج عنه معادلة غير متكافئة في طرفيها، ألا وهما (رياض وشيماء) من جهة، والمجتمع من جهة أخرى، حتى انهارت هذه المعادلة الثنائية أو تلاشت تماما في نهاية المطاف، لتبقى ذات طرف واحد، هو المجتمع فقط، والذي لم يشعر (نسيجه الاجتماعي) بعد حدوث هذا كله بانسلال هذين الخيطين النحيلين الدقيقين من تكوينه (الفسيولوجي) بقدر ما اعتبرهما من مخلفاته البشرية التي يمكنه الاستغناء عنها، والتجرد منها، كلما تقدم به العمر، كشعرة ميتة سقطت من رأسه، أو قلمة ناتئة من أظافره، أو بثرة متيبسة انحتت من أدمته. لم يكن الكاتب – في الحقيقة – طيلة امتداد صفحات روايته هذه البالغة نحو 400 صفحة، وعلى لسان راويه (رياض) بمثابة فيلسوف أو عالم أو منظر أو (مؤدلج) يقدم نظريات أو فرضيات مجردة، تطرح أو تفترض وجود ما لا وجود له، وإنما كان يطرح واقعا عاشه بجميع حواسه وجوارحه، مهما كانت طبيعة هذا الواقع، وموقعه من الصواب والخطأ، ومهما كانت نتائجه إيجابا أو سلبا. ثم إنه – كذلك – لم يكن يبحث عن حلول معينة لمشاكل ذات صفة محددة، يواجهها بين أفراد مجتمعه، بقدر ما كان يهمه أن يقدم هذه الإشكاليات التي يعانيها على طاولة المجتمع أولا – بطريقته الشخصية هو – ثم مناقشتها وتقييمها ومعايرتها من قبل المجتمع نفسه ثانيا، وعلى الطاولة ذاتها بحيادية لا تغلب أحد الطرفين على الآخر، بعيدا عن الميول والأهواء الشخصية، ذات التوجهات المتطرفة. وهذا ما جعل (رياض) يقع في دائرة الرفض القاطع لكل ما يريده من قبل مجتمعه، وكل ما يؤمن به من مبادئ وقيم جملة وتفصيلا، حتى ظهر وكأنه – هو الآخر في نهاية الأمر – قضية إنسانية عائمة، لا حل لها مثلما أنه كان يحاول طرح مشكلاته من وجهة نظره الشخصية على مجتمع يتجاهله بصمت لتمرده عليه، وانتظاره الممل العبثي لإجابات شافية منه على ما يدور في ذهنه، وكأنه قد انطبق عليه ما انطبق على شخصيتي (استرغون وفلاديمير) في مسرحية (في انتظار جودو) الشهيرة للكاتب صموئيل بيكيت. فكيف يريد شخص ما جوابا من شخص آخر لسؤال لم يتقبل أن يسمعه أصلا؟ ويبدو أنه حتى الراوي نفسه في نهاية الرواية لم يعد يفهم أحدا حتى ذاته، مما يحيل ذاكرتنا مجددا إلى العنوان الفرعي للرواية، وعلى غلافها الخارجي، والذي جاء ليحمل لنا تفسيرا أو توضيحا أكثر لعنوانها الرئيسي، ألا وهو (محاولة فهم ما لا يحدث). فمن سنوات السجن الثلاث التي عاشها (رياض) بألم ووحشة وعزلة، دون أن يعرف سببا واضحا لاعتقاله، حتى خروجه مجددا لمعترك الحياة ومشاكلها، دون أن يعرف – أيضا - سببا واضحا لإطلاق سراحه، ليعيش غربة جديدة، ومن نوع آخر بين أفراد مجتمعه المحافظ، الذي لا يتوافق مع تفكيره ومبادئه وما ينادي به، إلى أن قرر – أخيرا – أن يترك الأرض (اليابسة) هروبا من حياة الناس عليها ليكون بحارا (صياد سمك) يشق به قاربه أعماق البحار، بحثا عن الرزق الحلال، في غربة (مائية) جديدة لا يشاركه فيها إلا الأسماك والمخلوقات البحرية الهائمة في غياهب اللجج وأصوات أمواجها المتلاطمة، وكأنه قد أصبح في هذه الحالة مخلوقا مائيا لا علاقة له باليابسة وأهلها، وعليه أن يبدأ حياة بحرية ذات نظام بيئي مختلف، ولابد أن يتكيف معها لتحوله من كائن أرضي الى بحري. ان هذه الرواية – كما ملأتني حزنا وبؤسا وألما فظيعا لدى قراءتي لها لدرجة أنني وددت من كاتبها لو كتب على غلافها الخارجي (ممنوع قراءتها لذوي القلوب الضعيفة) – فقد ملأتني أيضا – في الوقت ذاته – إعجابا بمقدرة كاتبها الفذة على الكتابة، وتمكنه التام من فن السرد وأدواته، وجمال لغته المتفجرة التي تعيد اكتشاف المفردات المعبرة وصياغتها من جديد، لتتولد منها – بعد مزاوجتها ببعضها البعض – عبارات وجمل وتعابير وصور مبتكرة غاية في الجمال والروعة.
مشاركة :